بداية العلاقات بين المسلمين والروم
عندما ظهر الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي، كان هناك دولتان كبيرتان تقتسمان الزعامة على العالم المعروف يومئذ، وهما دولتا الفرس والروم. فقد كان الروم يبسطون سلطانهم على الشام ومصر- منذ قرون عديدة- وبذلك يطوقون شبه الجزيرة العربية- مهد الإسلام- من الشمال والشمال الغربي، وكان الفرس يبسطون سلطانهم على اليمن والعراق، وبذلك يطوقون شبه الجزيرة العربية من الجنوب والشرق.
وقد ظهر الإسلام في الوقت الذي كانت الحرب فيه مشتعلة بين الفرس والروم فالعداء بن الدولتين قديم ومزمن.
هزيمة الروم أمام الفرس
وفي أثناء هذا الصراع الأخير بينهما تغلب الفرس على الروم في البداية، وقهروهم واكتسحوا أهم وأغنى ولاياتهم في الشرق، وهي الشام ومصر، ووصلوا في زحفهم إلى مدينة الإسكندرية عام 619 م 1 . وقد ألحق الفرس بالروم إهانة كبيرة عندما استولوا على فلسطين- مهد المسيحية- ونقلوا الصليب المقدس إلى بلادهم- كان كل ذلك يجري «إبّان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة والمشركين، ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب، دينهم النصرانية وكان الفرس غير موحدين دينهم المجوسية فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد، وفألا حسنا لانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان»2.
ومعنى هذا أن العرب في شبه الجزيرة العربية، والمسلمين والمشركين على السواء كانوا على علم بما يدور حولهم بين الدولتين الكبيرتين. وكان المشركون فرحين بانتصار الفرس على الروم، وفي نفس الوقت كان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم على الفرس.
انتصار الروم على الفرس وتحقق وعد الله عز وجل
ودخل المسلمون في نقاش وجدل حول هذه القضية، ولمن تكون الغلبة في النهاية. فحسم القرآن الكريم الأمر في سورة من سوره المكيّة التي سميت باسم سورة الروم فقال تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 1- 5] .
جاءت هذه الآيات الكريمة «تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين»3.
وقد تحقق ما تنبأ به القرآن الكريم، وكان حتما أن يتحقق ما أنبأ به العليم الخبير فمع بداية العقد الثالث من القرن السابع الميلادي، بدأ تيار الحرب يتجه ليسير لصالح الروم، وأحرزوا انتصارات كبيرة على الفرس، وطردوهم من مصر والشام، في أقل من ست سنوات (622- 627 م) ولاحقوهم في بلادهم ذاتها «وفتحت معركة نينوي (سنة 627 م) في العراق، التي اندحر فيها الفرس الطريق أمام البيزنطيين- الروم- للزحف على بلاد فارس»4.
انشغال الفرس والروم عن الدعوة الوليدة .. تدبير إلهي
وهنا نلاحظ وجود توافق أو اتفاق بين أحداث تاريخية كبيرة فهل كان هذا التوافق مجرد مصادفات؛ أو أنه يسير وفق قوانين كونية وتدبير خفي لا يعلمه إلا علام الغيوب وحده سبحانه وتعالى؟!!.
فقد بعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلم (سنة 610 م) . وهي نفس السنة التي اعتلى فيها هرقل عرش الإمبراطورية البيزنطية، وأخذ يهيئ الدولة لحرب الفرس وبدأ هجومه عليهم (عام 622 م) وهو نفس العام الذي هاجر فيه النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتمكن هرقل من هزيمة الفرس- كما أسلفنا- ووقّع معهم (سنة 628 م) معاهدة صلح استعاد بمقتضاها كل المناطق التي استولوا عليها، ثم استرد الصليب المقدس5 وعاد هرقل من جولته مع الفرس منتصرا، قاصدا بيت المقدس ليرد الصليب المقدس إلى مكانه، ويحج إلى القدس شكرا لله على انتصاره على الفرس.
وهنا جاءته رسالة من النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، يدعوه فيها إلى الإسلام، وكان ذلك بعد صلح الحديبية الذي كان في نهاية العام السادس الهجري.
فهل توافق كل هذه الحوادث الكبيرة والخطيرة، والتي غيرت مجرى التاريخ العالمي كله، وأثرت في مصير البشرية، ووجهته وجهة جديدة، هل كان هذا التوافق مجرد مصادفات، أو أن في الأمر تدبيرا إلهيّا يريده الله ولا ندرك نحن أبعاده؟ … الله وحده هو الذي يعلم حقيقة ذلك.
على كل حال كان من حسن الحظ- كما أسلفنا- أن الإسلام ظهر وقوي واشتد عوده ومضى على ظهوره ما يقرب من عشرين عاما، قبل أن يتنبه الفرس والروم كلاهما لخطورة ما حدث، ولم يقدروا أبعاده، ولم يستطيعوا أن يفهموا أن دينا جديدا قد نزل، وأن دولة جديدة قامت على أساس هذا الدين. وأن العرب- الذين كانوا يحتقرونهم بالأمس- سوف يخرجون من جزيرتهم تحت راية هذا الدين. وسوف يدعونهم للدخول في دينهم، فإن أجابوا فهم إخوانهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن رفضوا وقاوموا الدين وصدوا الناس عنه؛ فسوف يحاربونهم ويقهرونهم جميعا، وينتزعون منهم سيادة العالم، وسوف يخلصون الشعوب من نير حكمهم واستغلالهم، ويوجهون مصيرها وجهة صالحة نافعة، ويخرجونها من ضلالات الوثنية والشرك بالله إلى توحيده توحيدا خالصا من كل شائبة، وسوف يقيمون العلاقات الإنسانية على أسس فاضلة ومثل عليا. فلما بدأ الفرس والروم جميعا. يدركون أن الإسلام خطر على سلطانهم، وأرادوا مقاومته كان الوقت متأخرا جدّا بالنسبة لهم. ففي خلال هذه السنوات التي انشغل فيها الفرس بالروم والروم بالفرس، استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية. وأن يؤسس دولة الإسلام الفتية. وأن يخرج بالإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى العالم، فالإسلام لم يأت للعرب وحدهم، وإنما لكل الجنس البشري، وهنا بدأت العلاقات بين المسلمين والروم.
المسلمون قبل اتصالهم بالروم
في الفترة المكية من حياة الإسلام، كان النبي صلّى الله عليه وسلم مشغولا بأمر قريش ودعوتها إلى الإسلام، ومقاومتها للإسلام. فلم يكن ممكنا ولا منطقيّا أن يخاطب العالم الخارجي ويدعوه للإسلام، قبل أن يسلم أهل مكة وهم أهله وعشيرته الأقربون.
ولم يحدث اتصال- في تلك الفترة- بأمم أخرى غير العرب، سوى ذلك الاتصال الذي حدث مع الحبشة عند هجرة المسلمين إليها في العام الخامس من البعثة النبوية6.
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش
كذلك في السنين الأولى بعد الهجرة، لم تتهيأ الفرصة أمام النبي صلّى الله عليه وسلم للاتصال بالعالم الخارجي؛ لأنه كان أمامه مهمات شاقة كان لا بد أن ينجزها قبل أن يخاطب العالم، ليبلغ رسالته للناس جميعا. كان أمامه أمر بناء الدولة الإسلامية وإرساء دعائمها، وكانت أمامه قريش، التي لا زالت مصرة على مقاومة الدعوة وصد الناس عنها. والحقيقة أن موقف قريش من الإسلام كان في غاية الخطورة؛ لأن بقية العرب كانوا يتربصون بإسلامهم أمر قريش؛ لأن قريشا كانوا أئمة العرب وأهل البيت الحرام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطي لأمر قريش الأولوية على سواه. «فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله …»7.
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة
وكان أمام النبي صلّى الله عليه وسلم مشكلة اليهود، وتأمرهم على الإسلام والمسلمين، وكيدهم لهم. وقصة اليهود مع الإسلام منذ ظهوره قصة طويلة، فمنذ هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بدأت فصول هذه القصة التي لم تنته بين الإسلام واليهود حتى الآن.
وعند هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة عاهد اليهود واعتبرهم مواطنين في دولة الإسلام، وضمن لهم حرية عقيدتهم وشعائرهم الدينية وأحسن معاملتهم8. ولكنهم لم يحسنوا هذه المعاملة؛ لما جبلوا عليه من لؤم الطبع والمكر والخيانة؛ فهم شر الدواب الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، ولا يرعون عهدا ولا وعدا.
يهود بني قينقاع
فبعد الانتصار الرائع للرسول صلّى الله عليه وسلم على قريش في غزوة بدر الكبرى، في رمضان من السنة الثانية للهجرة، تحركت أحقاد يهود بني قينقاع وحزنوا على هزيمة قريش، وأظهروا استياءهم لانتصار المسلمين، وأخذوا يتحرشون بهم، ولم يراعوا ما بينهم وبين المسلمين من عهود، فنقضوها ونكثوا بها، فأجلاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن المدينة9.
يهود بني النضير
ثم جاء دور بني النضير بعد غزوة أحد في العام الهجري الثالث، وتأمرهم لقتل النبي صلّى الله عليه وسلم، مما جعل طردهم من المدينة أمرا ضروريّا؛ جزاء هذا المكر الخبيث، وتخليص عاصمة الإسلام من هذا الميكروب اللعين10 . ولكن بني النضير لم يتعظوا بما حل بهم، فقد استمروا في التأمر ضد الرسول والمسلمين، ولعبوا دورا خطيرا في تأليب قريش وحلفائها لمهاجمة المدينة فيما عرف بغزوة الأحزاب في نهاية العام الخامس للهجرة.
يهود بني قريظة
كما تولى زعيمهم حيىّ بن أخطب أمر تأليب بني قريظة وحملهم على نقض عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم، والانضمام إلى قريش والأحزاب في محاولة استئصال المسلمين، وأوقعهم في ارتكاب الخيانة العظمى ضد الدولة الإسلامية في وقت الحرب. الأمر الذي جعل لزاما على النبي صلّى الله عليه وسلم أن يعاقبهم العقاب العادل، فلم يكد الأحزاب يرجعون خائبين، حيث ردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا خيرا، حتى تحرك الرسول بسرعة وحاصر يهود بني قريظة وقضى عليهم11 .
يهود خيبر
ولكن دسائس اليهود وأحقادهم لم تنته بطرد بني قينقاع وبني النضير من المدينة، واستئصال بني قريظة، بل استمروا في التأمر من خيبر12 وغيرها من المستعمرات اليهودية في شمال المدينة، الأمر الذي كان يشكل عقبة كبيرة في طريق انطلاق الدعوة الإسلامية، وكان وجود اليهود في خيبر وما جاورها من واحات يهودية في شمال المدينة بينها وبين الشام، يعد خطرا على الدعوة الإسلامية التي لا بد أن تسلك هذا الطريق لتخرج إلى العالم. ولذلك لم يكد الرسول صلّى الله عليه وسلم يعود من الحديبية في نهاية العام السادس للهجرة حتى تحرك لحصار اليهود في خيبر، والقضاء على أخطر وكر من أوكار الخيانة والغدر ضد الإسلام في شبه الجزيرة العربية. داهم الرسول صلّى الله عليه وسلم اليهود في خيبر، وصاح الصيحة التي زلزلت الأرض تحت أقدامهم: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ»13 بدأت المعارك في خيبر شرسة، ولكن تحت ضربات جند الله القوية، أخذت حصون خيبر المنيعة تتساقط في أيدي المسلمين بما فيها ومن فيها، وأذعنوا واستسلموا وطلبوا الصلح، هنا يقدم لنا النبي صلّى الله عليه وسلم مثلا رائعا في العفو والتسامح والإنسانية، فقد كان قادرا على إبادتهم نهائيّا ومحوهم من الوجود. ولكنه لم يأت ليدمر ويبيد الناس، وإنما جاء هاديا ورحمة للعالمين، ومعلما للدنيا كلها. ولم يكن ليهدف إلا لإزالة العقبات من أمام الدعوة الإسلامية حتى تشق طريقها للناس في حرية وأمان. فقبل مصالحتهم وأبقاهم في أرضهم وديارهم، ولم يصنع أحد قبل النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا بعده مثل هذا الصنيع مع عدو ماكر خبيث، فلو أن أي قائد آخر وقف مثل هذا الموقف، لما كنا ننتظر منه سوى القضاء عليهم قضاء تامّا، ولكنه الرحمة المهداة للبشرية كلها. انتهى أمر اليهود في خيبر على هذا النحو، كما انتهى أمر اليهود الآخرين في المستعمرات اليهودية القريبة الآخرى في فدك وتيماء ووادي القرى على نحو مشابه وخضعوا لمثل ما خضع له يهود خيبر14 ، ولكنهم دائما تحت المراقبة الحذرة من جانب المسلمين.
اتصال المسلمين بالروم…إرسال السفراء إلى الملوك والأمراء
في بداية العام السابع للهجرة، بدأت تتهيأ للرسول صلّى الله عليه وسلم الفرصة للخروج بالدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية. فبمعاهدة الحديبية أمن جانب قريش، وبفتح خيبر أخضع اليهود لسلطانه، ولم يعد يخشاهم، وفكر في الدعوة والعالم.. فقام بإيفاد مبعوثيه إلى معظم زعماء العالم المعروف يومئذ، يحملون رسائله التي يعرض عليهم فيها الإسلام، والدخول في دين الله الحق.
فأرسل إلى كسرى فارس، وإمبراطور الروم، ونجاشي الحبشة، وإلى المقوقس في مصر، وإلى أمراء العرب في شمال وجنوب وشرق شبه الجزيرة العربية15 .
أول اتصال رسمي بين الإسلام والعالم المسيحي
والذي يهمنا هنا ونحن بصدد العلاقات بين المسلمين والروم هو أمر رسالته إلى هرقل- إمبراطور الروم- تلك الرسالة التي تعتبر أول اتصال رسمي بين الإسلام والعالم المسيحي، وأن هذه الرسالة وما ترتب عليها من آثار أو أعقبها من نتائج أثرت ولا تزال تؤثر في تاريخ العالم. فإن الروم الذين كانوا يمثلون العالم المسيحي يومئذ، لم يقبلوا الإسلام كدين جاء خاتما للأديان السماوية، وعامّا للبشرية كلها. بل قاوموه وحاولوا إبادته، وهو لما يزل وليدا بعد.
إن موقف الروم هذا بعد وصول رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل. جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم يعطي لجبهة الحدود بين شبه الجزيرة العربية وبين الشام- التي كانت تحت حكم الروم- الأولوية على ما عداها. ويهتم بأمرها غاية الاهتمام. والواقع أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يكن غافلا عن الجهة الشمالية فهي منفذ أساسي يسلكها الإسلام إلى العالم ولابد من تأمين هذا الطريق وإزالة كل عقبة تعترض سير الدعوة الإسلامية وكشف ما يكنه الناس في هذه الجهات للإسلام. فإذا هداهم الله وقبلوا الدين وآمنوا به. فهذا ما يريده الرسول، وما جاء من أجله وإذا قاوموه ورفضوه وصرفوا الناس عنه، فلا بد من أن يجبرهم على إخلاء السبيل أمامه.
غزو دومة الجندل
ولذلك نرى الرسول صلّى الله عليه وسلم يقوم بنفسه بغزو دومة الجندل16 في مطلع العام الخامس الهجري17. ودومة الجندل واحة كبيرة من الواحات الواقعة على الحدود ما بين الحجاز والشام. وسبب هذه الغزوة أن أهل دومة الجندل كانوا يغيرون على القوافل التجارية التي كانت تسلك هذا الطريق إلى الشام. ولكنهم لما علموا بمسير الرسول صلّى الله عليه وسلم تولاهم الفزع وهربوا، وغنم الرسول إبلهم وأغنامهم وعاد إلى المدينة.
وتوالت سرايا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى هذه الجهات الشمالية، لفرض هيبة الإسلام، وإرهاب أعداء الله، وإنذارهم بأن يخلوا بين الدعوة الإسلامية وبين الناس. فكانت سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب سنة ست من الهجرة18.
ثم سرية عبد الرحمن بن عوف في شعبان من نفس السنة إلى دومة الجندل.
يقول ابن سعد: «فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان رأسهم وكان نصرانيّا، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية»19.
فأنت ترى أن عين الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت مفتوحة على هذه الجهة، يراقب كل التحركات فيها، كما فتح عليها عيون أصحابه، ولفتهم إلى خطورتها، ولقد جاءت الأحداث بعد هذا مصدقة لنظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فبعد سنوات قليلة سوف يسلك المسلمون هذا الطريق لقهر الروم- أصحاب السلطان عليها- في خلافة الصديق رضي الله عنه فلابد أن تكون هذه المناطق خالصة لهم، ولا بد أن يهزوا نفوذ الروم ويقضوا على هيبتهم فيها.
قصة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل.
وصلت رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل- إمبراطور الروم- حملها له دحية بن خليفة الكلبي وكان نصها:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين20.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64 ] .
فماذا كان ردّ هرقل على هذه الرسالة التي جاءته من نبيّ الإسلام، يدعوه فيها وقومه إلى دين الله الحق، دعوة سلمية بالحكمة والموعظة الحسنة، خالية من أي تهديد بالحرب، أو استخدام القوة؟
تذكر بعض مصادرنا التاريخية أن هرقل استقبل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم استقبالا حسنا، بل مال إلى الإسلام، ولكنه لما عرض ذلك على رجال الدين المسيحي رفضوا وعارضوه بقوة21، فردّ على النبي صلّى الله عليه وسلم ردّا مهذبا واعتذر عن عدم قبول الإسلام؛ بسبب موقف رجال الدين المسيحي الذين لم يكن في استطاعته إغضابهم. وبعض مصادرنا التاريخية الأخرى لا تشير إلى رد هرقل على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم. ونستطيع أن نقول: إن تطور العلاقات بين المسلمين والروم بعد وصول رسالة النبي إلى هرقل يدل على أن الروم قد أخذوا جانب عداء الإسلام ومقاومته.
والذي يبدو لنا أن هرقل لم يحفل كثيرا برسالة النبي ولم يقدر خطورتها، فهو كان عائدا- عندما تسلم الرسالة- من حربه مع الفرس، تلك الحرب التي أشرنا إليها والتي انتصر فيها على فارس انتصارا ساحقا؛ لذلك لم يكن يتصور أن ما يحدث في شبه الجزيرة العربية يمكن أن يشكل خطورة على إمبراطوريته المترامية الأطراف.
وعلى كل حال فمنذ بداية العام السابع الهجري بدأت العلاقات بين المسلمين والروم تتطور متصاعدة على طريق المواجهة العسكرية، فبدأ الروم بتأليب القبائل وتحريضها، إلى الاشتراك معها في غزوة مؤتة في حرب المسلمين وبهذا يكون الروم قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين.
الهوامش
(1) د. عبد القادر أحمد اليوسف- الإمبراطورية البيزنطية (ص 94) .
(2) سيد قطب- في ظلال القرآن (21/ 22) .
(3) سيد قطب- في ظلال القرآن (21/ 22) .
(4) د. عبد القادر أحمد اليوسف- الإمبراطورية البيزنطية (ص 95) ، وانظر كذلك سانت موسى- ميلاد العصور الوسطى (ص 233) .
(5) الإمبراطورية البيزنطية د. عبد القادر أحمد اليوسف (ص 95) .
(6) انظر قصة الهجرة إلى الحبشة في ابن هشام (1/ 343) وما بعدها.
(7) البداية والنهاية- ابن كثير (5/ 40) وانظر كذلك الروض الأنف- السهيلي (7/ 357) ، والكامل ابن الأثير (2/ 286) .
(8) راجع نصوص معاهدة المدينة- ابن هشام (2/ 119) وما بعدها، محمد حميد الله- الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 41) وما بعدها، وحياة محمد. د. هيكل (ص 225) وما بعدها.
(9) انظر في أمر بني قينقاع سيرة ابن هشام (2/ 426) . وابن كثير- البداية والنهاية (4/ 3، 4) .
(10) انظر في أمر بني النضير ابن هشام (2/ 191) وانظر كذلك ابن كثير (4/ 74) .
(11) انظر في أمر بني قريظة ابن هشام (3/ 252) وانظر كذلك محمد أحمد باشميل- غزوة مؤتة (ص 7، 8) ومنتجومري وات- محمد في المدينة (ص 324) . ود. هيكل- حياة محمد (ص 32) وما بعدها.
(12) منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 332) .
(13) ابن هشام (3/ 380) .
(14) ابن الأثير- الكامل (2/ 222) .
(15) انظر في موضوع رسائل النبي إلى الملوك والأمراء المصادر الآتية: ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها. وصحيح مسلم بشرح النووي (12/ 107) ، وتاريخ اليعقوبي (2/ 77) . ابن الأثير- الكامل (2/ 145) . ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية (ص 81) وما بعدها. وأحمد زكي صفوت- جمهرة رسائل العرب (1/ 32) وما بعدها. ود. هيكل- حياة محمد (ص 383) وما بعدها.
(16) دومة الجندل … على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول. انظر: ياقوت- معجم البلدان (2/ 487) .
(17) ابن سعد- الطبقات (2/ 62) ، وابن الأثير- الكامل (2/ 177) .
(18) ابن سعد- الطبقات (2/ 89) ، ابن الأثير (2/ 208) .
(19) ابن سعد- (2/ 89) ، وابن الأثير (2/ 209) .
(20) الأريسيين- وجاء مكانها في بعض الروايات الأكاريين- أو الفلاحين- ويبدو أن المقصود بها هنا رعايا هرقل الروم وغيرهم.
(21) تاريخ اليعقوبي (2/ 77) .
المصدر
“بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة”
للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف، ص107-117.
“بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة”
للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف، ص107-117.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق