الأربعاء، 2 مارس 2022

دعوها فإنها منتنة

 دعوها فإنها منتنة



 د. فتحي أبو الورد 

أمقت العنصرية، وأبغض الطبقية، وأنفر من الافتخار بالأنساب أو الاعتزاز بمعايير الأرض على حساب معايير السماء، وأعلى شأن الروابط الإسلامية، والوشائج الإنسانية، وأسقط العنصريين من عيني، عربا كانوا أو عجما

أعشق تونس الخضراء، وأهيم بالجزائر بلد المليون شهيد، وأطرب للمغرب، وأشتاق لليبيا وأهلها أحفاد المختار،

وأنا متيم باليمن وأهله، أهل الحكمة والإيمان، وأحب العراق الأبي، وأهوى بلاد الحرمين مهبط الوحي ومبتدأ الرسالة،

وأذوب حبا في فلسطين أرض الرباط والجهاد، مسرى الرسول وأرض المعراج،

وأدعو لأهلها الطائفة المنصورة القاهرة لعدوها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس،

وأهش للأردن بلد الأشاوس، وأهيم بلبنان بلد الرقي والثقافة،

وتطيب نفسي بذكر الشام أرض العلماء والأدباء، وأحب السودان بلد الخير ونبع العطاء.

ولكل بلد مناقب ولأهله مآثر ومحامد. وحالي وحال إخوتي كما قال أبو تمام:

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بالرقتين وبالفسطاطِ إخواني

حب بلاد المسلمين قاطبة

ثم أنا متيم بحب بلاد المسلمين قاطبة، وبحب كل بقعة أرض تطؤها قدم مسلم في الشرق أو الغرب، ومذهبي في ذلك مذهب من قال:

وكلما ذكر اسم الله في بلد ** عددت أرجاءه من لب أوطاني

أما مصر فهي الهوى والري، وهي النور والضي، وهي العين والقلب، فيها المولد والنشأة، بلد الحضارة والثقافة،

وموطن العلماء والفقهاء والزهاد والقراء والأدباء والشعراء، بها الطور حيث كلم الله تعالى موسى، وبها الواد المقدس،

وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبـها ولد موسى وهارون وعيسى عليهم السلام،

وبهـا كان ملك يوسف.

إنها أم الدنيا كما حكي عنها قديما لأنها كانت ملاذا لكل من يريد الأمن ولم يجده في وطنه. ولايتها تعدل الخلافة،

وهي خزانة الأرض كلها كما قال تعالى على لسان يوسف: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}

قال العلماء: لم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد.

على حدود مصر وقف الزحف التتري، وارتدت الهجمة التترية عن بلاد المسلمين، وسقطت أسطورة التتار في عين جالوت.

وعلى أعتابها كسرت شوكة الصليبيين في حطين،

واندحرت الحملات الصليبية عن بلاد المسلمين، وعلى ثغورها سقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر.

ولا يوجد تعارض بين حب الأوطان والاعتزاز بالعروبة والانتماء للإسلام، فإذا جاء من يعلي رحم القوميات على رحم الإسلام،

أو يعتنق العصبية والعنصرية والقبلية على حساب رابطة الدين والعقيدة، ويتنكر للقيم والمبادئ والأخلاق، ويفتخر بالآباء والأجداد،

قلنا له أخطأت وتجاوزت الأصول، وأتيت شططا، فإن الإسلام رحم بين أهله، وإن أردت أن تفتخر فردد معي قول الشاعر الأموي نهار بن توسعة:

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

وما كرم ولو شرفت جدود *** ولكن التقي هو الكريم


دعوها فإنها منتنة

وقفت على محاولات وردود أفعال مؤداها الانتقاص من مصر مكانة وشعبا وتاريخا، والحط منها فى مجالات عديدة،

وعلى رأسها التعليم والتربية والثقافة؛ بل وانتقاص شعبها في الذوقيات والفهم وغيرهما.

هذه المحاولة تستغل بعض المواقف أو الأحداث أو الأوقات أو الظروف لتثبت صحة ما تدعيه، وتبرهن على صدق ما تهدف إليه،

وكأن يوما فى عمر الزمان هو الفيصل والحكم على تاريخ أمة وشعب، وكأن قطرة من ملح أجاج تفسد نهرا من عسل مصفى،

وكأن تاريخا من الحضارة والمجد والعطاء أبى البعض إلا أن ينساه ويهمله، ويتوقف عند حقبة المرض, والعلة الطارئة،

ويسحبها علي حياة الصحة والعافية بأسرها، وكأنها لم تكن يوما شمسا ولا منارة، وكأنها لم تشع يوما عطرا ولا حضارة،

وكأنها أيضا كتب عليها أن ينتهى أجلها عند هذه الحالة وتلك الحقبة،

وتصدر شهادة وفاتها إلى الأبد، فتموت ولا تحيا، وتسقط ولا تنهض،

وكأنها كذلك -عند شانئيها- بدع من الأمم فى حركة نواميس الكون وسنن الحياة، ودورات التاريخ،

التي تؤثر وتتأثر، تمرض وتتعافى. فهى -عندهم- حالة شاذة، ونمط متفرد، لا يسرى عليها ما يسرى على سائر الأمم.

المتورطون في المحاولة

تورط في هذه المحاولة -بوعي أو بغير وعي، وبقصد أو بغير قصد- كتاب، وعوام، ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من جنسيات عربية مختلفة؛ بل وفي بعض الأحيان بعض المصريين.

والأسوأ من ذلك كله أن يشارك في هذه المنقصة بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي،

ممن يفترض فيهم أن يردوا الناس إلى الرشد، إن هم حادوا أو انحرفوا او اختلت موازينهم، وفق معايير الإسلام وقيمه ومبادئه،

فكانوا هم الداء بدل أن يكونوا الدواء، وغدوا نقمة بدل أن يكونوا نعمة، وكأنهم لم يسمعوا يوما :

«دعوها فإنها منتنة» او لم يقفوا مرة على قوله صلى الله عليه وسلم «أبدعوى الجاهلية وانا بين ظهرانيكم».

النعرة الشعوبية العنصرية البغييضة

للأسف انتشرت هذه النعرة الشعوبية العنصرية البغييضة لتسخر من بعض الحوادث إذا وقعت من مصريين،

وبعض الأخطاء إذا صدرت عن بعض المصريين، وتجاوزات بعض الدعاة إذا كانوا مصريين إذا زلت بهم الأقدام، أو عثرت منهم الأقلام، او سبق منهم اللسان؛ فيجعلون من الحبة قبة، ومن الصغيرة كبيرة، ومن النملة فيلا.

راينا بعضهم ينتقد نقدا تبدو فيه الشخصنة والكبر والغرور والإعجاب بالذات والتعالى والتحامل والازدراء للمصريين والكبر اول معصية ظهرت فى الأرض،

وهى معصية إبليس حين تمرد على السجود لآدم، ورفض أمر ربه، وقال انا خير منه.

بل رأينا تنفيسا من البعض عن مكنونات مكتومة دفينة رأت أن الفرصة مواتية لتخرج ما بداخلها؛ فاختبأت وراء النقد لتشبع نقصها، وترضى غرورها،

وأى نقد يتسم بهذه الصفات فاعلم أنه نقد لم يرد به وجه الله، وإنما يراد به التشهير والتشويش، والانتقاص،

وتضخيم الأنا وتعظيم الذات، والحط من الآخر.

التعصب يعمي العيون

والتعصب كثيرا ما يعمي العين عن رؤية المحاسن، والكبر يعقد اللسان عن كلمة الثناء، فالمتعصب لا يثنى إلا على من وافق هواه ومشربه.

أو كما قال القائل:

عين الرضا عن كل عيب كليلة *** وعين السخط تبدى المساويا

حين ترى فى التعقيب على بعض المواقف او الاشخاص المصريين الغلظة والقسوة والخشونة،

بينما ترى الملاطفة والتبرير والتلطف والتاويل لكل ما يصدر عن الآخرين باسم الرقى والثقافة والتحضر، وربما باسم فقه الدعوة أحيانا.

ولا أدرى ما الدافع وراء ذلك: أهو الحسد؟.. الغيرة؟ أم هي محاولة التسلق والقفز على حساب تشويه الآخرين؟..

وربما العقد النفسية المستكنة فى خلجات النفوس والتى اهتبلتها فرصة لتجد لها متنفسا عندما غاب الكبار؟

البعض يريد أن يهدم الآخرين ليبنى نفسه على أنقاضهم، ولا ادرى لماذا لا يبنى نفسه دون أن ينال من الآخرين؛ فالطريق مفتوحة للمجد لمن أخذ بأسبابه، وليس بيد المصريين مفتاحها.

ولا ادرى ايضا بأى عقلية تفكر هذه الأنماط الشخصية من البشر؟

تعمد تشويه الآخرين

وما الذي يمكن ان تستفيده من تعمد تشويه الآخرين ولو بالباطل، وتعمد التعميم بكل نقيصة لكل المصريين،

فالمصريون فى حديثهم: كلهم هكذا، والمصريون فى كلامهم: أصلهم كذا،

والمصـريون فى نظرهم: معروف عنهم هذا، والمصريون فى تصورهم: يصدر منهم هذا.

ونسوا أن التعميم أكبر الآفات فى الحكم على المجتمعات والشعوب،

وغفلوا عن حقيقة عامة وهي أن المصريين في ذلك مثل باقي الشعوب منهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات.

ونسوا قوله تعالى

{وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى” وغفلوا عن الهدى النبوى القائل: د. فتحى أبو الوردوكونوا عباد الله إخوانا}.

وكأن هؤلاء جاءوا من كواكب أخرى غير التي نعيش فيها، وكأنهم لا يرون ما يعيبونه على بعض المصريين إلا في المصريين،

وكأن أعينهم عميت عن رؤية ما ينقمونه على بعض المصريين في أقوامهم،

فيرون القذى فى أعين المصريين بينما يتعامون عن الخشبات فى أعينهم وأعين أقوامهم،او كما قال الشاعر:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم.

نسى هؤلاء ما قاله بعض الدعاة لمن يدخل مصر – من ذوى التخصصات أو المكانة أو العلم – حتى يعرف حجمه مهما علا كعبه : يا داخل مصر فيه منك كتير.

تشويه مصر والمصريين

ولا ادرى ماذا سيستفيد هؤلاء من تشويه مصر والمصريين؟

هل ستثبت لهم الميزة والفضل؟

فليكن هذا ولكن بالحق والعدل، واى رصيد من التميز والتفوق لغيرنا من المسلمين نعتبره رصيدا لنا،

وأى إضافة فى سلم المجد والنهضة للغير شىء يسعدنا، فنحن جزء من كل يسمى الأمة الإسلامية.

إننا نحب المسلمين جميعا، ونسعد بكل تجربة ناجحة، كما قال ابن عباس: إني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، ومالي به سائمة.

وأى نجاح في بلد مسلم في أى مجال نعتبره نجاحا لنا؛ لأن المؤمنين إخوة، وهم يد على من سواهم، وهم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وهم كالبنيان يشد بعضه بعضا، وهم كالجسد الواحد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق