الدّولة الغريقةد. نارت قاخون
«الدّولة الغريقة»: سَكرَبة الدّولة والمجتمع والإنسان، و«خردنتهم»!!
* السَّكرّبة: تحويل الشّيء إلى «سكراب» بعمد وقصد وعزم!
* الخردنة: تحويل الشّيء إلى «خردة» بعمد وقصد وعزم!
يُعرّف «المجال السّياسيّ» بأنّه النّطاق أو الحقل الّذي لا يستطيع الإنسان؛ فرداً وجماعة، أن يمارس نشاطاته الحيويّة والاجتماعيّة والثّقافيّة إلّا في ظلّ «حضور الدّولة»؛ سلطة ومرجعيّة ومشروعيّة.
أي، بعبارة أخرى، هي كلّ النّشاطات الّتي تهيمن عليها «الدّولة» بسلطة «الدّستور»، و«القانون»، و«عنف الدّولة»؛ فهي الّتي تفعل، أو تأذن لغيرها أن يفعل.
لم تكن «الدّولة» في التّجارب العربيّة قبل ظهور مفهوم «الدّولة الحديثة» واسعة المجال السّياسيّ؛ فكان بإمكان الفرد والجماعات الانسحاب من «المجال السّياسيّ»، ونفوذه لسدّ حاجات العيش؛ في سكنه، وعمله، وتعلّمه، وتنقّله من مكان إلى مكان، وصحّته، وتعبّده بانتماءاته الدّينيّة والمذهبيّة.
أسهمت «رخاوة المجال السّياسيّ»، وتقلّص هذا المجال في الخبرة القديمة في تراكم خبرة فرديّة ومجتمعيّة، ومجالات حيويّة و«مجتمعيّة» يستطيع الفرد والجماعة عبرها أن «يقاوموا السّلطة السّياسيّة» من جهة، والانسحاب من نطاق نفوذها والحاجة إليها من جهة أخرى.
ولكن، مع ظهور ما يُعرف بـ«الدّولة العربيّة القطريّة»، أو «الوطنيّة»، برزت ظاهرتان:
تضخيم «المجال السّياسيّ» وتوسيعه، تقليص «المجال المجتمعيّ» وتفكيكه.
فنصّت «دساتير الدّول القطريّة» على أنّ السّكن والعمل والصّحة والتّعليم، هي من اختصاصات «الدّولة» واجبات وحقوقاً.
ومضت التّجربة الواقعيّة لهذه الدّول «القطريّة» على أنّ «الدّين والتّديّن»، و«الأدب والتّأدّب»، و«الفنّ والتّفنّن»، و«الرّياضة والتّريّض» تقع في «المجال السّياسيّ»؛ فـ«الدّولة» تحاول التّحكّم في كلّ هذه النّشاطات.
ولأنّ جُلّ، بل كلّ الدّول العربيّة القطريّة، أو «الوطنيّة»! تفتقر للشّروط الموضوعيّة والضّروريّة لتضخيم مجالها السّياسيّ بالمعنى الدّستوريّ والقانونيّ، ومنظومة «الحقوق والواجبات»، الّتي تضمن أكبر قدر ممكن من «العدالة والحريّة وكرامة العيش»، فقد رافقت «الدّولة العربيّة القطريّة» المظاهر الآتية:
(1)
اختزال حضور مجالها السّياسيّ في «العنف والقهر»؛ فلا حديث عن «عنف السّلطة» المقيّد بـ«المشروعيّة القانونيّة والدّستوريّة»، بل نعيش تحت وطأة «سلطة العنف»، المشروع لأنّه من «الدّولة» بقانون أو من غير قانون!
(2)
عجز «الدّولة» عن الوفاء بواجبات تضخّم «مجالها السّياسيّ»؛ فالدّول الفقيرة من «الدّول العربيّة» عجزت عن الوفاء بالمجالات الحيويّة من سكن وعمل وتعليم وصحّة، والمجالات المجتمعيّة والسّياسيّة كالمشاركة الحقيقيّة في القرارات السّياسيّة والسّلطويّة؛
فـ«السّاكن»، أو قل من باب المجاز الكاذب «المواطن»! في هذه الدّول الفقيرة تقلّصت إلى حدّ التّلاشي مجالات عيشه، ومشاركته السّياسيّة والمجتمعيّة إلّا في حدود هيمنة الدّولة وتحكّمها، الّتي لا تستطيع ولا تريد -أي الدّولة- إلّا أن يكون حكراً على «عصبتها وعصابتها»!
وقل الأمر نفسه في دول تصنّف «غنيّة»؛ فهي وإن وفّت بالمجالات الحيويّة بسبب «ثرائها» من جهة، وقلّة عدد «مواطنيها» من جهة أخرى، إلّا أنّها سلبت كلّ الحقوق السّياسيّة، بل والدّينيّة منهم! فليس لمواطنيها أن يشاركوا في قرار سياسيّ، أو توجّه دينيّ، ومجتمعيّ!
(3)
تدمير منظومة المجالات المجتمعيّة الأهليّة الّتي كانت توفّر للأفراد والجماعات ملاذات لمقاومة «السّياسيّ»، أو «الانسحاب من مجال نفوذه»،
ومرّ ذلك عبر إحلال تحالف «سلطة الدّولة» و«سلطة شركاء الدّولة» من «الأشخاص»، محلّ المجالات الحيويّة الفرديّة والجماعيّة والأهليّة؛
فليست «العشيرة»، ولا «الدّيانة»، ولا «المذهب الدّينيّ»، ولا «المجال المهنيّ»، ولا «التّوجّه الفكريّ والسّياسيّ» ما يُمكّن الفرد والجماعة من ممارسة نشاطاتهم على اختلاف مستوياتها، بل «العلاقات والمصالح الشّخصيّة» مع أفراد السّلطة، لا بنيتها.
(4)
تعرية الإنسان، أو ظهور «الفرد العاري»! فهو لا يستطيع العيش بكلّ مستويات العيش خارج هيمنة الدّولة، ونفوذ سلطة أفرادها، وفي الوقت نفسه تعجز الدّولة،
بل تفكّك كلّ مجالات العيش العموميّ أو «الحكوميّ»، وتدمّر كلّ مجالات العيش الأهليّة والمجتمعيّة،
ليقف «المواطن» فرداً عارياً وعاجزاً أمام «سلطة العنف»، واحتكار ملاذات العيش بيد «العصبة أو العصابة» من شركاء السّلطة،
الّذين يتغيّرون ويتبدّلون على شرط العلاقات والمصالح الشّخصيّة حصراً!
(5)
إحلال «التّنافس بين الأفراد» محلّ «التّعاون بينهم»،
وما يرافق ذلك من مظاهر وأعراض؛ كاختزال النّجاح بالنّجاحات الفرديّة، وتنافس فرد مع فرد؛
فلا تحلّ «الدّولة» مشكلات «المجتمعات الأقلّ حظًّا»!
وهي الأقلّ رعاية! بل تحلّ مشكلة فردٍ أو فردين منها بأن تستقطبه إلى مدارسها المتميّزة،
أو مواقع السّلطة النّافذة، ثمّ تعرضه في «الاحتفالات الوطنيّة» نموذجاً للنّجاحات والانجازات!
كما تمسي مشكلات لقمة العيش مشكلات بين أفراد وأفراد،
فهي «حصراً» بين «بائع بسطة خضار» يعمل من غير «ترخيص»، وصاحب محلّ خضار يدفع التّراخيص والضّرائب وأثمان الكهرباء!
وصاحب «بسطة الخضار» لا يُسمح له أن «يترزّق» لأنّه محتاج فقط، بل لأنّه «مدعوم» من فردٍ في «السّلطة»!
(6)
تضّخم آفات من يتوهّمون أنّهم «الطّبقة الوسطى»؛ فيتحوّلون حرفيّاً إلى «فازلين» يُمكّن «السّلطة» من «اغتصاب الجميع»!
فيهيمن على هؤلاء، بل على كثير من المسحوقين مقولة «البلاء كلّ البلاء في الشّعب»!!
فلا يفوّتون مناسبة من غير تبكيت للشّعب «المتخلّف»!
وتحميله كلّ المسؤوليّات، فـ«الدوّلة» مضطرة لرفع أسعار الكهرباء والمشتقّات النّفطيّة، والخبز؛
لأنّ «المواطن الفسقان المتخلّف» لا يقبل العيش في رومانسيّة «العتمة»، أو ممارسة رياضة المشي لعشرات الكيلو مترات، أو اتّباع الحمية «الكيتونيّة»!!
لا أرى أنّ الدّولة العربيّة القطريّة والوطنيّة تخضع لمفهومَي «الدّولة السّطحيّة» و«العميقة»،
بل هي «دولة غريقة»؛ تتميّز «دولتها العميقة» بأنّها الأعمق «غرقاً»، و«إغراقاً».
إنّها لا تريد النّجاة بالسّفينة، ولا النّجاة من «السّفينة»،
بل تريد بيعها بما فيها لـ«قراصنة النّفوذ الدّوليّ والاقتصاديّ»،
وبعض هذه السّفن، أو «الدول» يزداد سعرها في سوق القرصنة إن بيعت «سكراباً وخردة»!
لذلك لم يعد للسّلطة إلى سكرَبة الدّول والمجتمع والإنسان، وخردنته!
سكراب: تعريب لكلمة scrap، وتعني فيما تعنيه: الفُتات، والحُثالة، والزُّبالة!
خردة: من «خرد» العربيّة، وتعني فيما تعنيه ما تفتّت وتفرّق و«ذلّ» من الأشياء!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق