لماذا نتخبط وإلى متى؟
لماذا نتخبط؟ لأننا مصرون على "اختراع العَجلة"!
إلى متى سنظل نتخبط؟ إلى أن نسلِّم بأن لدينا "عَجلة" أحسن ما تكون إتقانا وأداءً وأثرا، وأن ندرك أنه من واجبنا كفَّ أيدي "المخربين" عن العبث بهذه "العجلة"، أو استبدالها، وذلك للصالح العام، بل لصالح البشرية، وليس لصالح فئة بعينها! إنه صحيح الدين الذي ارتضاه الله لنا.. هكذا بكل بساطة!
وأبدأ بما ختمت به مقالي السابق "وشوفنا مصر!":
"بينما الحال على هذا النحو من السوء والتردِّي، كثر المتنبئون والمنظرون والمحللون الذين أشبعونا كلاما (في الآونة الأخيرة) عن قرب رحيل الجنرال المنقلب، طوعا أو كرها.. أما الشعب المصري، فقد توزع أمام هذا المشهد إلى: نشطاء ثوريين، معارضين، مطبلين، منتفعين، متربصين، متفرجين، وآخرين.. وهذا حديث آخر".
وها أنا أواصل الحديث..
في هذا المقام.. لا يعنيني من الفئات سالفة الذكر، سوى فئتين: النشطاء الثوريين و"المعارضين"..
أفيقوا من حلمكم!
أما النشطاء الثوريون، فهم الذين يدندنون باسم الثورة "اللي تشيل ما تخلي"، غير مكترثين بما سيكون عليه حال البلاد، بعد "ما يشيلوا النظام وما يخلوا له أثر"! ربما لأنهم يعتقدون أن هناك من لديه خطة لـ"بناء نظام جديد رشيد".. أو أن بإمكانهم (بعد انضمام جموع الشعب إليهم) تكرار ذلك المشهد "المثالي" الذي هزَّ القلوب، وأدمع العيون، عقب تنحي مبارك، يوم تنادى "الثوار" لتنظيف الميادين، وطلاء الأرصفة! حلم جميل.. أرجو أن يفيق هؤلاء "الطيبون الأنقياء" منه!
هل تغير حال هذه النخب خلال تسع سنوات خلت، هي عمر الانقلاب على الشرعية الدستورية؟ هل تغير نمط تفكيرها؟ هل استوعبت التجربة؟ هل لدى بعضها (على الأقل) تصورا "ناضجا" لوضع مصر ونظامها، بعد رحيل ياسر جلال (طوعا أو كرها) الذي لا يعني رحيله رحيل النظام
فخلال ثمانية عشر يوما (عمر الانتفاضة على مبارك) فشلت النخب السياسية جميعا، في التوافق على "ما بعد مبارك"! فآلت الأمور (برضا هذه النخب) إلى العسكر الذين ظنوا أن ثمار "الانتفاضة" التي ساقوا إليها الشعب، على مراحل (كان آخرها صفحة "كلنا خالد سعيد") قد سقطت في "أفواههم"، غير أن "الثوار" أطبقوا على "حلوق" العسكر، فلم يستطيعوا ابتلاعها، فاضطروا اضطرارا لإجراء انتخابات رئاسية، فاز فيها الدكتور محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين، وهذا ما لم يكن في حسبانهم، فشرعوا (أي العسكر والقوى الإقليمية الداعمة لهم) في التخطيط للانقلاب على الرئيس المنتخب، فور فوزه الذي ماطلوا في إعلانه، أكثر من أسبوع!
فهل تغير حال هذه النخب خلال تسع سنوات خلت، هي عمر الانقلاب على الشرعية الدستورية؟ هل تغير نمط تفكيرها؟ هل استوعبت التجربة؟ هل لدى بعضها (على الأقل) تصور "ناضج" لوضع مصر ونظامها، بعد رحيل ياسر جلال (طوعا أو كرها) الذي لا يعني رحيله رحيل النظام، كما في حالة مبارك؟
كلا! فالجميع يردد (منذ تسع سنوات) أسطوانة "تعالوا ننسى خلافتنا ونفكر في المستقبل"! فهل جلسوا؟ ربما! هل تفاهموا؟ احتمال.. ما النتيجة؟ لا شيء يثير الانتباه، أو يمكن اعتباره بداية لتغيير "حقيقي" يقتلع هذا النظام الفاسد، ويحافظ على كيان الدولة! إذن فنحن أمام "صفر كبير"!
احترموا الحقيقة والمنطق!
وأعني بحديثي أولئك "المعارضين" الذين يطلقون على أنفسهم "التيار المدني"! فإذا كان لا بد أن تجلس "المعارضة" بكل أطيافها للحوار والنقاش (ويجب أن تجلس)، فعلى هؤلاء أن ينتهوا (أولا) عن احتكار مصطلح "المدنيَّة"، والتشدق به!
تاريخهم السياسي كله يؤكد هذه "الحقيقة"! والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى! ليس آخرها سعيهم الحثيث للانقلاب على إرادة الشعب، والرئيس "المدني" المنتخب، غير آبهين بالقانون الذي يجرِّم الانقلاب على الشرعية الدستورية، ويعتبره خيانة عظمى، ونبذهم لحق الشعب في اختيار من يحكمه!
فالمدنيَّة في جملة واحدة هي: سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، وهؤلاء أبعد الناس عن احترام القانون وحقوق الإنسان! فتاريخهم السياسي كله يؤكد هذه "الحقيقة"! والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى! ليس آخرها سعيهم الحثيث للانقلاب على إرادة الشعب، والرئيس "المدني" المنتخب، غير آبهين بالقانون الذي يجرِّم الانقلاب على الشرعية الدستورية، ويعتبره خيانة عظمى، ونبذهم لحق الشعب في اختيار من يحكمه! ثم ابتلاعهم ألسنتهم، وإغلاقهم عيونهم، وصمهم آذانهم، عن جرائم الانقلاب بحق آلاف المصريين وعائلاتهم، ممن يختلفون معهم فكريا وسياسيا!
كل مَن يقر بسيادة القانون ويحترم حقوق الإنسان هو مدني متمدِّن، وكل مَن لا يقر بذلك فهو همجي متخلف، غير مؤهل للحوار، ولا حتى التفكير، بغض النظر عن عقيدته الدينية، وانتمائه السياسي!
نرضى من هؤلاء أن يكونوا "علمانيين مدنيين"، فهم (في نظرنا) أحرار، لهم أن يعتقدوا ما يشاؤون.. بالمقابل، عليهم أن يكفوا ألسنتهم عن الحديث في الدين وتشويهه، فقد اختاروا أن يكونوا غير متدينين، أو أن يتحللوا من الدين، ومن ثم فلا علاقة لهم بالدين، من قريب أو من بعيد.. عليهم ألا يطالبوا (في المستقبل) بسن تشريعات تخالف صحيح الدين، فالأغلبية الساحقة من المصريين مسلمون، وعليهم احترام هذه الحقيقة.. عليهم عدم الاعتراض (في المستقبل) على تنقية القوانين مما يخالف صحيح الدين..
على هذه القاعدة يمكن الحوار، والتفكير في مستقبل البلاد، سواء رحل ياسر جلال (طوعا أو كرها) أو بقي ملتصقا بالكرسي الذي اغتصبه بتأييدهم ودعمهم! فإذا لم يقبلوا بذلك، فلا مجال للحديث ولا للحوار.. لهم طريقهم ولنا طريقنا..
ربما يكون طريقهم أقصر وأهون؛ لأن ما يجمعهم مع المستبدين أكثر مما يفرقهم.. فقد تفاهموا مع الاستبداد لعقود، فحققوا مكاسب شخصية وآنية، على حساب مصالح البلاد والعباد.. أما طريقنا، فنعلم أنه طويل وشاق، لكنه يفضي (في النهاية) إلى ما فيه خير البلاد والعباد.
هذا النمط الثوري ليس حلا!
أقول للأعزاء الذين يتصورون أن الثورة (بصورتها التقليدية) هي الحل، وقد كنت واحدا منهم إلى خمس سنوات خلت: الثورة بصورتها التي نعرفها فكرة فاشلة! وهذه خلاصة دراستي لأشهر الثورات في التاريخ: الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، الثورة الإيرانية!
أما ما يعتقد الثوار بأنها ثورات، فهي ليست كذلك! وأعني "ثورة" عرابي 1881 التي كانت تمردا مسلحا (لأسباب منطقية) حقق بعض المكاسب، وبقي النظام.. "ثورة" 1919 التي كانت انتفاضة شعبية عارمة استمرت ثلاث سنوات، خذلها سعد زغلول ورفاقه، وبقي الاحتلال.. "ثورة" يوليو 1952 التي كانت "حركة احتجاج" داخل الجيش، تحولت إلى انقلاب، تقاسم أصحابه السلطة والامتيازات، على غرار ما كان قائما أيام الملكيَّة.. و"ثورة" يناير 2011 التي كانت انتفاضة حقيقية من جانب الشعب، وظفها العسكر للإطاحة برأس النظام (مبارك)، وبقي النظام الذي أمسى أشد ظلما وعدوانا وفسادا، من أيام مبارك!
أما عن الثورات.. فالثورة الإنجليزية، أو الثورة "المجيدة" التي أسست للنظام القائم (حتى اليوم) في بريطانيا، فقد سبقتها حرب أهلية طويلة انتهت بعزل الملك جيمس الثاني في عام 1688، وتحولت بريطانيا من ملكيَّة مطلقة إلى ملكيَّة دستورية، الحكم فيها للشعب ممثلا في البرلمان، وفق ما سُمي "إعلان الحقوق".
"ثورة" يناير 2011 التي كانت انتفاضة حقيقية من جانب الشعب، وظفها العسكر للإطاحة برأس النظام (مبارك)، وبقي النظام الذي أمسى أشد ظلما وعدوانا وفسادا، من أيام مبارك!
وأما الثورة الفرنسية، فقد ظلت الدماء تجري في شوارع باريس وأزقتها لأكثر من خمس سنوات، ولم تكن هذه الدماء لأنصار النظام البائد وحدهم، بل كان أكثرها للثوار أنفسهم، إذ لم يتورعوا عن قتل بعضهم بعضا بتهم "ملفقة"، بعد انشقاق بعضهم على بعض! إلى أن جاء "عسكري" كورسيكي اسمه نابليون بونابرت، فاستولى (بالتحايل) على الحكم، وأعلن نفسه قنصلا أول، ثم إمبراطورا!
وأما الثورة الروسية، فسرعان ما انقسم القائمون بها إلى فصيلين: البلاشفة (الأغلبية) الذين قبضوا على زمام الأمور، والمناشفة (الأقلية) الذين تعرضوا للتصفية واحدا تلو الآخر، حتى الذين فروا منهم إلى خارج روسيا، وأشهرهم تروتسكي، صاحب المذهب المعروف الذي اغتيل في المكسيك! أما عامة الشعب المسحوقين (البروليتاريا) فقد كرَّستهم "الثورة" عبيدا، يخدمون "النخبة الثورية" التي خلفت آل رومانوف على عرش روسيا! وابتلعت وعدها للشعب بأن يحكم، تحت عنوان "ديكتاتورية البروليتاريا"!
وأخيرا.. الثورة الإيرانية التي هي ثورة "طائفية" بامتياز، كرست تشيُّع إيران الأعمى، متجاهلة حقوق ملايين المسلمين السنة الذين ينتشرون في غرب إيران وشرقها! وقد أسرفت هذه الثورة في القتل، فلم ينج منه رفاق الخميني وكبار مساعديه! ثم ما لبثت الثورة أن تمددت في محيطها السني، فاستولت على أربع عواصم هي: بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، والبقية تأتي، في ظل هؤلاء الذين يحكمون شعوب الجوار الإيراني بالحديد والنار!
تلكم كانت خلاصات الثورات الأهم والأشهر.. فما السبيل إلى التغيير الشامل الذي لا يكلف الكثير من الدماء، ويفضي إلى نظام حكم رشيد؟ الإجابة في مقال آخر إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق