الروح الصليبية الخفية!
ساد الخطاب السياسي المادي والعلماني الغربي بروحه الصليبية في الثقافة العربية الفكرية والسياسية وفي أدبيات النخب السياسية القومية والإسلامية منذ أن احتلت الحملة الفرنسية مصر بقيادة نابليون والذي أسس لمنظومة البعثات العلمية من العالم العربي إلى جامعات الغرب عندما أمر ببعث المئات من شباب إلى فرنسا (يشاهدون عظمة فرنسا ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ليكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم…للبدء في تغيير تقاليد البلاد) “رسالة الطريق إلى ثقافتنا محمود شاكر”!
وامتد هذا الخطاب ليسري بروحه في الفكر الإسلامي السياسي وليصبح هو الخطاب السياسي للجماعات الإسلامية بتبنيها خطاب علي عبد الرازق الذي نفى فيه أن يكون للإسلام نظام سياسي وأن الخلافة من الدين في كتابه الإسلام وأصول الحكم والذي صدر مع إلغاء الخلافة وسقوطها، وعلى الرغم من طرد الأزهر له ورد العلماء لكتابه وفكره الاستشراقي إلا أن خطابه السياسي المبدل هذا أصبح هو خطاب الجماعات الإسلامية والتي يفترض أنها نشأت في الأصل كردة فعل على سقوط الخلافة وهيمنة القوى الصليبية على العالم العربي والإسلامي لكنها سقطت فيما سقط فيه التيار القومي من قبل وتعايشت وتماهت مع هذا الواقع الذي صنعته الحملة الصليبية!
فالتيار القومي منذ ظهوره، وتبعه في ذلك التيار الإسلامي، تبنى الخطاب السياسي المادي بفكره الغربي ولم ينظروا للروح الصليبية العميقة في هذا الخطاب وربط تطور الغرب ونهضته بخطابه العلماني المادي ولم يدركوا بأن الخطاب العلماني نفسه هو تيار مسيحي إصلاحي نابع من الثقافة المسيحية الغربية وكل ما فعل هو عزل رجال الدين عن السلطة والحكم لكنه لم يلغ تأثير الكنيسة والثقافة المسيحية على الخطاب السياسي في الغرب، ففي كل حملاتهم السياسية والعسكرية خاصة على العالم العربي كان قادة القوى الغربية، متدينهم وعلمانيهم، يؤكدون بأنها امتداد للحملات الصليبية التي أطلقها بابوات كنيسة روما منذ إعلان البابا أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى عام 1095 بقيادة ملوك أوربا إلى الحملة الصليبية الأخيرة في الحرب العالمية الأولى 1914، بقيادة بريطانيا البرتستانية الملكية وفرنسا الكاثوليكية العلمانية، والتي أسقطت الخلافة العثمانية ليصدر البابا بندكتوس الخامس عشر بيانا يبارك فيه عودة الأراضي المقدسة في فلسطين إلى الحكم المسيحي ويدعو إلى عدم إرجاع الأراضي المقدسة للمسلمين وهذا ما التزمت به القوى الغربية إلى يومنا هذا!
فالروح الصليبية والثقافة المسيحية لا زالت تهيمن على الفكر الغربي منذ القرون الوسطى خصوصا اتجاه العالم الإسلامي وإن تعددت أنمطة الحكم سواء ملكية دستورية أو جمهورية علمانية أو تنوع الفكر السياسي الغربي!
وما دعوى القوى الغربية إلى نشر الديموقراطية وقيم الحرية إلا غطاء رقيق لهذه الروح الصليبية العميقة والثقافة المسيحية الإقصائية في السياسة الغربية وشعار يشرعن للهيمنة الغربية ووصايتها على النظام الدولي الذي أنشأته على أنقاض الخلافة ودماء الشعوب وثرواتها من الهنود الحمر في الغرب إلى المسلمين في الشرق!
لقد تخلت الجماعات والنخب عن الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي كمرجعية سياسية عقائدية وتبنت الفكر السياسي الغربي العلماني ذا الأصول المسيحية الرومانية الإغريقية وارتبطت بالمنظومة السياسية العربية التي أنشأها تشرشل في مؤتمر القاهرة عام 1921، وأصبحت هذه الجماعات والنخب القومية ثم الإسلامية هي الوجه الشعبي للنظام العربي وإحدى أخطر أدواته، وهذا ما كشفته ثورة الربيع العربي حتى وصل الحد بهذه الجماعات والنخب إلى إعادة إنتاج خطاب علي عبد الرازق باسم الثورة وحرف خطاب الثورة السياسي ليتبنى الديموقراطية والخطاب السياسي الغربي في الحكم والسلطة، لتفقد بذلك الثورة قوتها العقائدية والفكرية بعدم تبنيها،إيمانا وعملا، الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي ودعوتها لإقامة أنظمة حكم ديموقراطية في العالم العربي ظانين بأنهم بدعواهم هذه ستقف معهم القوى الكبرى والنظام الدولي ومؤسساته التي ترفع شعار الحرية والديموقراطية ولم يدركوا بأن هذه الحرية والديموقراطية ليست إلا شعارا يخدعون به الشعوب إلا بعد أن اخترقت القوى الدولية والثورة المضادة الربيع العربي بالجماعات والنخب الوظيفية واحتوت الثورة لتعيد تأهيل رجال النظام السابق كالسيسي والسبسي والبرهان باسم الثورة والديمقراطية التي يدعو لها الثوار المخدوعون!
فلا ينبغي للعرب بعد تجربة سقوط الخلافة وسايكس بيكو وكامب ديفيد والربيع العربي أن يعدوا القوى الغربية ونظامها الدولي ومؤسساته كمرجعية وضامن للحرية والسلام والتنمية بل عليهم أن يعيدوا قراءة تاريخهم على الأقل في المائة العام الماضي ليدركوا حقيقة الروح الصليبية لهذا النظام الدولي ومؤسساته وأدواته وليدركوا حجم الاختراق والتوظيف للجماعات والنخب والتي أصبحت أشد خطرا من النظام العربي نفسه كونها تدعو للعروبة والإسلام لكن حقيقة دعوتها شعارات براقة تناسب كل مرحلة سواء قومية أو إسلامية تحت رعاية ودعم النظام الدولي ومؤسساته والنظام العربي وحكوماته!
فالعرب اليوم يواجهون قوى صليبية وأنظمة استبدادية وجماعات وظيفية معا وهذا ما غاب عن الثوار العرب في الربيع العربي وركنوا بثقافتهم التي كونها المحتل الصليبي إلى النظام الدولي ليدعم ثورتهم لينصفهم من الاستبداد وإلى الجماعات الوظيفية ليقودوا ثورتهم فكان ما كان من ضرب للثورة من الداخل بهذه الجماعات وحصارها من الخارج من مؤسسات هذا النظام الدولي!
وهذه النتائج طبيعية جدا ومتوقعة عندما فقد العرب وثوارهم بوصلتهم الشرعية في العلاقة مع أعداء الله ورسوله باستبدالهم الحقائق القرآنية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ ﴿ لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾ بالقانون الدولي والشرعية الدولية ومؤسساتها وركنوا للقوى الدولية الغربية ليستمدوا منها الرعاية والدعم للحرية والنهضة كما خاطب عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر العربي الأول في باريس 1913لفرنسا بأن (الرابطة الدينية قد عجزت دائما عن إيجاد الوحدة السياسية وأنا أترجم عن رأي الفئة المتنورة…والحقيقة هي أن المدنية الأوربية العصرية هي التي انتشلتنا من سباتنا العميق) ليصبح خطاب المؤتمر العربي الأول هو الخطاب السياسي والثقافي السائد حتى في ظل الثورة، وكأن الروح الصليبية سرت في جسد الأنظمة والجماعات والنخب ليصدق فيهم حديث النبي ﷺ (دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ ، مَنْ أجابَهم إليها قذفوه فيها ، هم قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا ، يَتَكَلَّمُونَ بألسنتِنا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق