الجمعة، 16 سبتمبر 2022

إضاءات منهجية

 إضاءات منهجية


أكثر ما ينتشر في مواقع التواصل “التدليس”، فقد دخل الساحة الإخبارية والعلمية والدعوية على حد سواء. وهو أخطر من الكذب، لأن المدلّس يركز على ما يخدم هواه ويهمّش ما يزعجه، وأكثر من يستخدمه، المميعون بإفراط والمتشددون بغلو. كلاهما يغذي دعوة الآخر. والمستقيم ينشد الحق أينما وجد ولا يقبل المساومة عليه.

أكثر ما يخذل قوة الحق ويحرم الناس بركاته، أن يستبدل ميزان الحق بميزان الخلاف، فالأول يخضع الجميع للحق وإن كان على حساب النفس ويصلح، والثاني يخضع الجميع للصف، بغض النظر عن الحق، مقياسه (من معي ومن ضدي). وإن كان يلبس لبوس الحق إلا أنه يخضع الحق لهواه بالنصرة العمياء وعين الرضا عن كل عيب كليلة!

قال ابن القيم رحمه الله: “ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان:

-إما إلى تفريط وتقصير.

-وإما إلى مجاوزة وغلو.

وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل الثابت على الصراط الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم”. (1)

كلما اشتد التفريط والتمييع للدين، قابله تلقائيا إفراط وغلو كرد فعل على ما يجري، وهذا يعني أن الاستقامة هي السبيل الوحيد لإصلاح الوضع ولن يتحقق ذلك بدون إخضاع الجميع لمرجعية القرآن والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم والسلف، ليخف الخلاف وتتقلص المسافات وتجتمع الصفوف على الحق.

ما دام هناك عبث في تفسير النصوص الشرعية بعملية إعادة مراجعة “التراث الإسلامي” ليوائم العصر! وما دامت الدعوات تستجيب للضغوطات الدولية لإبراز المسلمين كدعاة للسلام ومسالمين فيتم التضحية بجزء عظيم من الدين في كل القضايا لإرضاء الغرب، سيستمر الغلو والتشدد في الارتفاع! وسنفتقد الاستقامة.

لكل فعل رد فعل، ولكل انحراف ثمن، وقد نبهنا الله جل جلاله مبكرا جدا في القرآن لهذه الأزمة التي نعيش في سورة هود، فحذرنا من الركون وحذرنا من الطغيان، وما لم نلتزم بالاستقامة كما أمر الله تعالى سيستمر الانحراف في الأمة والتفرق والخلاف. من هنا تظهر أهمية إعادة المرجعية للقرآن والسنة والإصلاح.

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)) (سورة هود)

إن أكثر ما يفسد عملية الإصلاح الارتهان لساحات الخلاف ومحاولة استرضاء الأطراف على حساب الحق، ولا يمكن التخلص من هذه الأزمة إلا بإعادة الاعتبار للحجة والبيّنة من الكتاب والسنة، وحفظ مساحة للخلاف التي يسمح بها الشرع على ألا تصبح وسيلة للتملص من الحق. وكلما توحدت المرجعية خف الاحتقان.

لا بد أن ندرك أن ما تعيشه الساحة ليس إلا تداعيات ما تتعرض له الأمة من غزو غربي يستهدف أصول الإسلام وعوامل القوة والانبعاث، وكل دعوة منحرفة سنجد لها اتصالا وثيقا بهذا الواقع، تدفعه مؤسسات وتمويل وأجندات الهدف منها تحييد الإسلام من حياة المسلمين أو تحويله لنسخة مدجّنة بلا أي قوة.

وبدل الانشغال في صياغة الجيل على الإسلام، أصبح الدعاة يحاربون أشكالا لم يعهدوها من الدعوات الشاذة التي تنتشر بين المسلمين وتشتت تركيزهم عن رسالتهم الأهم، في إقامة بنيان الإسلام، كالنسوية والجندر والدين الإبراهيمي الجديد. وكلها تتصل ببعضها البعض، الهدف منها إخراج نسخة محرفة من الدين.

ولا بد أن نشدد على أن كل ما نعيشه اليوم من اختلاف كبير وأمور لم تعهدها الأمة، قد نبأنا به النبي صلى الله عليه وسلم مبكرا، مما يتطلب عودة لأحاديث آخر الزمن والتمسك بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم بشدة، وتداولها للتذكرة، فإن الفتن ستشتد أكثر والإعداد ضعيف والقلوب هشة، ولن يثبت إلا موفق. والقرآن والسنة منجاة.

إن أهم نصيحة للمسلم اليوم، التمسك بالقرآن والسنة والنأي بنفسه عن التعصب الأعمى والظلم، يعطي الحق المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم والجيل المتفرد، أما غيرهم فيوزن في ميزان الحق لا الخلاف، ويسأل الله الهداية والثبات، فالعقل والبصيرة نعمة وفضل. ومن أراد الخير لهذه الأمة ليستقم كما أمر الله.

وإن كان من بشرى أبشر بها المسلمين في الختام فهي أن المستقبل لهذا الدين، والنصر له بوعد من الله حق، ولكنه نصر لمن استقام على منهج نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا التخصيص في تبيان منهج النبي وأهميته في آخر الزمان لاستحقاق النصر، مهم جدا لمن رام سهما في تحقيق وعد الله الحق. فطوبى لأهل السنة.

وأخيرا، لا أشك في صدق محبة المسلمين لدينهم ولا غيرتهم على حرماته، لكن مشكلتنا في موافقة اتباعهم لما يحب الله ويرضى، في درجة استقامتهم على الكتاب والسنة، مما يتطلب اجتهادا في طلب العلم والعمل به، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى وسؤال الله من فضله العظيم، فهي قصة مجاهدة!

في الحديث (وسترون من بعدي اختلافا شديدا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات؛ فإن كل بدعة ضلالة) (2). فعليكم بالعتيق،

اللهم ألف بين قلوب عبادك ووحد صفوفهم على التقوى وأصلح قلوبهم على محبتك وطاعتك، واكفهم شرور أنفسهم والأعداء. اللهم آمين.


(1) إغاثة اللهفان 116/1


(2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) واللفظ له، وأحمد (17144)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق