الأربعاء، 7 سبتمبر 2022

صداقة الأزمة أم أزمة الصداقة بين إنا لمدركون.. واهبطوا مصر

 صداقة الأزمة أم أزمة الصداقة بين إنا لمدركون.. واهبطوا مصر

ياسين أقطاي

إنها الصداقة، ذلك الشكل من أشكال العلاقة الذي من الضروري الوقوف أمامه وتفحص كل جوانب دلالته للوصول إلى معرفة وفهم مغزى وجودنا ورسالتنا -نحن البشر- في هذا العالم، ولإدراك طبيعة علاقاتنا مع الآخرين ومقتضيات تلك العلاقة.

جرِّب صديقك قبل أن تحتــــــــــاجه 

                         إن الصديق يكون بعد تجـــــــــارب

إننا في حياتنا نؤسس علاقات صداقة شتى بشكل أو بآخر، ولكن هناك عدد من التساؤلات التي تفرض نفسها في هذا السياق، هي: من الذين نتخذهم أصدقاء؟ ولماذا؟ ومن الذين نضعهم في قائمة الأعداء؟ ولماذا؟ على أي أساس نصبح أصدقاء هؤلاء؟ وتحت أي ذرائع نصبح أعداء أولئك؟ هل تكون صداقتنا فقط مع الأشخاص الذين نستمتع بقضاء الوقت معهم؟ وفي حالة ما إذا لم يكن لدينا أصدقاء، ما مقدار الوقت الإضافي الذي يمكن أن نقضيه مع الأشخاص بهدف تحصيل المكاسب الشخصية والاهتمامات فقط؟ إلى أي مدى نقيِّم أنواع العلاقات مع أي شخص ممن حولنا؟ لا شك أن إجاباتنا التي نقدمها توضح من نكون وطبيعة موقفنا تجاه هؤلاء الأشخاص. وبالطبع، إن هناك صداقات قائمة على المتعة والمصلحة أو الفضيلة، وأي نوع منها نفضل يكشف عن اتجاهنا وقيمتنا، وفي النهاية، يتعلق الأمر بترجيحاتنا فقط.

فالصداقة أولا -وقبل كل شيء- شكل من أشكال العلاقة القائمة على الحرية، وله في حد ذاته بناء متماسك ولا يقبل التسلسل الهرمي. وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن كل علاقات الحب بين الناس تخلو من كل التسلسلات الهرمية والقيود، وأن العلاقة تتأسس بحرية هي شرط أساس للصداقة، وعندما نعود لمقولة أرسطو: “أيها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء”، نجده نفسه هو الذي يقول كذلك: كما أن العبيد لا يمكنهم تكوين صداقات، فكذلك لا يمكن للشخص الحر أن يكون صديقًا للعبيد.

أبقى من الحب

إن حقيقة علاقة الصداقة تكمن بشكل أكثر فعالية في دائرة المودة بعيدًا عن سلبية علاقة الحب، ولهذا فإن التوازن والتناسق أمر ضروري في حياة العلاقات، فقد يكون الحب أروع من الصداقة، ولكن تظل الصداقة أبقى من الحب.
ومن هذا المنظور فإن كفاح النبي موسى عليه السلام ونضاله من أجل تأسيس مجتمع يتمسك بمقتضيات الصداقة الحقيقية من شعبه الذين تم استعبادهم في مصر الفرعونية يُعدُّ أمرًا مأساويًّا للغاية، فإن بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر بحرية واستقروا فيها، ما لبثوا أن استُعبِدوا بعد فترة وجيزة وفقدوا حريتهم، إلى درجة أنهم فقدوا قدرتهم على أن يؤسسوا أي صداقة، وإن جهاد النبي موسى عليه السلام يوضح أنه مهما حدث فإن هناك مكانة خاصة للمسؤولية التي يتحملها تجاه شعبه الذين تربطهم به روابط الدم أي القائمة على مشاعر الأخوة.

وبالطبع فإن ما طلبه من فرعون ليس فقط ألَّا يدَّعي أنه إله، وألا يجعل عباد الله عبيدا له، ولكن في الوقت نفسه ألا يضطهد الناس، وألا يمنعهم حريتهم، وألا يخدعهم ويشوش أفكارهم بالأساليب الأيديولوجية (الفكرية) التي تبهرهم وتشل تفكيرهم، والخلاصة أنه يطالب بالحرية لشعبه. وفي نهاية صراع موسى الطويل والشاق، تحرر بنو إسرائيل من طغيان فرعون وسيطرته. وبفضل الله عز وجل ومعجزته عبروا البحر الأحمر تحت قيادة موسى عليه السلام، لكن الصعوبات الحقيقية (المآسي) التي سيواجهها موسى معهم تبدأ من تلك النقطة، وعلى الرغم من قيادة موسى عليه السلام لشعبه، فإنه لم يستطع أن يجد صديقا آخر غير أخيه هارون، يفهمه ويبادله التضامن والمساعدة دون شروط 

قيمة الحرية

إن شعبه الذي حرره لم يُقدِّر قيمة تلك الحرية، وإنهم ليسوا على دراية حتى بالنعمة التي بين أيديهم، وربما يشعرون بشيء من الراحة لتحررهم من أعباء السياط التي كانوا يعانون منها والأعمال الشاقة التي أنهكت أجسادهم وأذهبت قوتهم، لكنهم ليسوا في حالة تمكنهم من الشعور بقيمة ما وصلوا إليه من حرية وفضيلتها؛ فقد أفسدت العبودية طبيعتهم البشرية. وهذا واضح بجلاء في أنهم بدلًا من الفرح بعبورهم البحر الأحمر، والتمتع بالحرية في صحراء سيناء وجبالها، والعمل على المحافظة على تلك الحرية وحمايتها، بدأوا منذ اللحظة الأولى في السير وراء أهوائهم واتباع نزواتهم الشخصية. وبدلا من الشعور بالسعادة وتنفس هواء الحرية على سفح الجبل، فإنهم يختلقون أزمة حول إطعام بطونهم، فأنزل الله عليهم المن والسلوى (طائر السمان)، والحقيقة أن ما رغبوا فيه بعد تناولهم هذه الأطعمة مدة من الزمن، يقدم مثالا لكل من مرّ بظروفهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة، فطلبوا من موسى عليه السلام البصل والثوم والعدس.

وهذا هو نسيانهم الخير الذي في أيديهم، واشتهاؤهم وحنينهم إلى الأسوأ الذي كانوا عليه في الماضي، “هل تفضل الأسوأ على الأفضل؟” إنهم فعلوا ذلك! وليس من الصعب على الإطلاق الخروج من هذا التحول في الطلب في هذه القصة بنموذج اجتماعي (سوسيولوجي). أليس من الوهم أن يكون الحنين إلى الماضي هو غالبًا ما يفضل الأسوأ على الأفضل، ويعطيه الأولوية، خاصة عند ترجمته إلى لغة سياسية؟ وماذا يمكن أن نقول عن أولئك الذين تحرروا للتوِّ من قيود العبودية على الجبل، والذين يُتوقع منهم أن يتنفسوا الحرية، ثم تراهم يطلبون من نبيهم أن يصنعوا لأنفسهم هياكل أو طقوس؟

إن هؤلاء الذين أُشربوا في قلوبهم حب الذهب، رغم وجود النبي موسى عليه السلام بين ظهرانيهم، يحاول تحريرهم ويخبرهم أنه لا أحد ولا شيء يستحق العبودية سوى الله عز وجل، إلى أي مدى يمكن لهم أن يكونوا أصدقاء ودودين لذلك النبي، فما تم في الواقع أنه حينما ذهب النبي موسى إلى جبل طور ليتلقى الألواح من ربه، صنع قومه عجلا ذهبيًا وبدأوا في عبادته بعد أن أغراهم بذلك السامري قبل مجيء موسى عليه السلام، فعندما عاد موسى بالأوامر التي من شأنها إقامة الصداقة والنظام بينهم، فإنه بعدما رأى ما فعلوه في غيابه لا بدّ أنه كان يظن “عدم وجود أصدقاء” حتى الآن فيما بينهم.

لم يكن هناك صديق، ولكن كانت هناك صداقة، وسيأتي صديق يحمل عبء الصداقة ومعناها. صديق كان عليه أن يستعد لذلك فجعلهم في الجبال يعرفون أسلوب حياة التحرر من العبودية، ثم وضع الألواح جانبا، حتى يحين الوقت الذي يتمكنوا فيه من إدراك قيمة تلك الألواح وما بها من وصايا وشريعة. إنه -عليه السلام- رعاهم في الواقع ورباهم. تذكر الروايات أنه علَّم شعبه في الجبال مدة أربعين عامًا حتى تمكنوا من الاستقرار في فلسطين، ولا شك أن هذه الفترة تعني حقيقةً تغيير الأجيال. فتجولوا في الجبال على مدار أربعين عامًا، حتى لم يبقَ هناك أي أثر لثقافة العبودية في شخصيتهم، وحتى تمكنوا من تحمُّل معنى وعبء الصداقة الحقيقية.

نماذج مأساوية

وبالنظر إلى مقتضيات الصداقة، تبدو معضلة النبي موسى عليه السلام الشخصية في أنه لم يجد مروءة وصداقة مع هؤلاء، ولم يستطع تأسيس تلك العلاقة المتوازنة معهم، وهذا من ناحية مقارنته بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالطبع، وإلا فإن النبي موسى عليه السلام قد أدى وظيفته النبوية على أكمل وجه وأتمه كما ينبغي أن يكون.

وباختصار، فإن صداقة العبيد ومرافقتهم في طريق ما، وصداقة الحلفاء السياسيين أحيانًا، تقدم نماذج عديدة لهذه الصورة المأساوية.

وفي النهاية، هناك أسئلة تستحق الطرح باستمرار، مع من نقيم الصداقة؟ ولماذا؟ ومِن أجل مَن؟ هل نشكِّل عبئًا على أصدقائنا في رحلة الصداقة؟ أم أننا نتحمل أعباء بعضنا بعضا؟ هل نعرف الطريق؟ أم هل نكتشف الطريق معًا؟ هل لدينا قرار معين تجاه ما نتجه إليه بصفاتنا المشتركة؟ هل نتحرك بشكل أعمى نحو وجهة غير مؤكدة بينما يقودنا شخص ما؟ وعلى وجه الخصوص، هل لدينا الاستعداد لترجيح الأسوأ على الأفضل في هذا الطريق؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق