الأربعاء، 7 سبتمبر 2022

وما محمد إلا رسول (1)


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

                وما محمد إلا رسول (1)

السيرة النبوية من المتعة النفسية إلى الاشتباك مع الكافرين والمتأثرين بخطابهم
محمد جلال القصاص

وما محمد إلا رسول (1)


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:-

 منذ وعيت وأنا في ظلال السيرة النبوية، فقد أتيت على البداية والنهاية ولم أتجاوز السادسة عشر، وإلى اليوم لم أكد أرحل عن ظلال السيرة النبوية. كنت أقرأ حبًا وشوقًا للحبيب، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله عنهم، . كانت السيرة النبوية بمثابة الرياض العطرة التي أستريح فيها. ثم تاقت نفسي لتصور شخصِ الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وحياة الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وهو بين أصحابه، رضي الله عنهم. وكم قضيت من الساعات، وأنا شاب صغير، أتخيل الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وهو في مسجده قائم يصلي وخلفه الصحابة، رضي الله عنهم، كأنهم بنيان مرصوص، وهو، صلى الله عليه وسلم، جالس بعد الصلاة ووجهه الشريف يصافح وجوههم الكريمة.. يسبح ويسبحون.. يقول ويصغون، وهم يتحدثون بين يديه وهو، صلى الله عليه وسلم، ينصت ويبتسم. والروحُ الأمين وَالملَأُ من المَلائِكة بينهم وعوام الملائكة تحفهم. والشيطان بعيد يلطم خديه ويضع التراب على رأسه. والدنيا ترقبهم وتنصت لهم وتروي عنهم؛ وهو، صلى الله عليه وسلم، يسير بين أصحابه كأحدهم لا يتميز عنهم بشيء وقد أوتي الكمال والجمال. وهو بين الصفوف وعيناه ترمقان العدو، وحسان ينادي منتشيًا: "جبريل تحت لوائنا ومحمد"؛ وهو في طرقات المدينة تقبِّل الأرضُ قدميه، ويفرح بمروره الشجرُ والحجرُ، يُعطر المكان والزمان، ويتيه الشجر والحجر فخرًا بمرور الحبيب بين يديه. وهو، صلى الله عليه وسلم، في بيته بين زوجاته وأبنائهن والبيت مزدحم بالنساء وأطفالهن ومن تأتين عليهن زائرات. وهو قائمًا يصلي في جوف الليل، وهو راكع يعظم ربه.. وهو ساجد يتضرع ويناجي.
وأبو بكر الصديق وهو ثائر يوم الردة يقف وحده صلبًا في وجه الجميع ينادي "أينقص الدين وأنا حي؟!". وعمر.. وكم وددت أني أصافح عمر.. أني أعانق عمر. أني أتلو القرآن على عثمان بن عفان في مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم. وإني أحب عثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأخدم القرآن وأهله ما استطعت وأرجو أن أحشر في زمرة القرآن وأهله. وكم وددت أني أجالس عليًا وأرافقه.. كم وددت أني مع خالد وهو يسير ليلًا ويشجع الكرام "عند الصباح يحمد القوم السرى"، وهو يهتف في الجند وقد حاقت بهم المخاوف: "المعونة على قدر النية والأجر على قدر الاحتساب، فاروا الله من أنفسكم خيرًا يمدكم بمدده"،وهو يجثم جثوم الثعالب، وهو يثب وثبة الأسود.

كانت هذه أحلام الصبا.. إي والله. انقضت أيام الصبا ومراحل الشباب الأولى وليس للنفس حديث إلا الحبيب وأصحابه بهذا التصور السهل.

وبعد سنوات عثرت على أسطوانة مدمجة (CD) من شركة "حرف" في السيرة النبوية وكان بها بداية تجسيد لحياة الصحابة وعرضٌ لجغرافيا السيرة. مكة: الكعبة ومساكن القبائل ومعالم السيرة في مكة، والهجرة، والمدينة بتفاصيلها، وغزوات الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكانت إطلاله جديدة على حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله عنهم.

ثم تطور الأمر بعد ذلك لمحاولة كتابة متواضعة، نشرت بعنوان: "مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية" وكانت، كشأن عمل الشباب، لا يحمل أكثر من العاطفة القوية والله نسأل توفيقًا وأجرًا، إنه كريم منان.
 ثم، بلا قصدٍ، نزلت بساحة النصارى في عام1426ه/ 2005م، وهم يتطاولون على الدين ومقام سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، وبدأتْ مرحلة جديدة من النظر للسيرة النبوية، كان النصارى يطلقون أسئلة ويحاولون تقديم رؤية مخالفة للبعثة المحمدية. وبدأت أتلقى أسئلة النصارى والمتأثرين بهم من المنتسبين للإسلام (كخليل عبد الكريم، وسيد القمني، ومعروف الرصافي، وهشام جعيط ): تشكيك في البعثة المحمدية (نزول الوحي من السماء)، وفي شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم،: نبي هو، صلى الله عليه وسلم،؟! أم عبقري اجتهد؟ أم مصلح تألم لحال قومه وقد غشيهم الجهل والظلم فحلُّوا في ذيل الأمم؟ أم كانت بيئة قريش الطامحة للتحول من القبيلة للدولة، بفعل الانتعاش التجاري (الإيلاف وحركة البضائع)، فجاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، يكمل ما بدأه قصي بن كلاب وهاشم بن عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم؟ أم كانت بيئة العرب المتأزمة تبحث عن مخرج ووجدته في شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم؟ وأسئلة حول القرآن الكريم: ثبوتية الوحي، صحة النص وسلامته من الأخطاء اللغوية، والناسخ والمنسوخ، وتعدد القراءات؟

 وقضيت سنوات في مواجهة شبهات النصارى، وكتبت كتابًا طبع ثلاث مرات، حاولت من خلاله المشاركة في الرد على الشبهات التي يثيرونها، بعنوان "الكذاب اللئيم زكريا بطرس: دراسة بحثية تحليلية مختصرة"، وعشرات من المقالات نشرت على "صيد الفوائد" و"طريق الإسلام" والمنتديات الإسلامية، كنت أرمي عن الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وعن حمى الدين.

وبعد أن كثر المدافعون عن الإسلام ضد الحملة التنصيرية البذيئة الشرسة، انصرفتُ لدراسة العلوم السياسية في الأكاديميات المختصة حتى حصلت على الدكتوراة في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة. وفي السياسة وجدت ذات الأسئلة من العلمانية الوضعية Positivism. تُشكك في الوحي والغيب عمومًا. وتشكك في قابلية أي نموذج روحاني لأن يسود، وتدّعي أنها هي "نهاية التاريخ".. أو أن البشرية منذ كانت وهي تسير في سياق تصاعدي وبالتالي فإن ما وصل إليه الغربيون من تدبيرٍ لشئون الحياة هو نهاية التقدم وليس بعد ذلك شيء!!
ويكذبون فالتاريخ جولات بين حزب الله بقيادة رسل الله، عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنون بهم من ناحية وحزب الشيطان يتقدمهم إبليس ومن أغوته الشياطين من بني آدم من ناحية أخرى. وحين تتمكن المعصية من المجتمعات يأتي الهلاك من الله {(وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصۡحَٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُونَۢا بَيۡنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا. وكُلًّا ضَرَبۡنَا لَهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَۖ وَكُلًّا تَبَّرۡنَا تَتۡبِيرًا) (الفرقان:38-39) (وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدًا)(الكهف:59)، (وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرۡيَتِكَ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ فَلَا نَاصِرَ لَهُمۡ) (محمد:13)، وفي الحديث: "أنهلك وفينا الصالحون: قال: نعم إذا كثر الخبث"

 وبين النصارى والعلمانيين رأيت أعدادًا غفيرة من المنتسبين للإسلام يقرؤون البعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة) من منظور علماني بحت. رأيت جموعًا من المنتسبين للإسلام آمنوا بالمذاهب العلمانية (الوضعية) وجاءوا للشريعة يحاول كل واحدٍ منهم أن يصب الشريعة في قالبه المذهبي، فمنهم من قال عبقري من العباقرة ويزعم أن التاريخ يصنعه العباقرة!!
 وكم من عبقري مرّ دون أن يدري به أحد، فمن لا يمده ربه بأسباب لا تحس به أو تسمع له ركزا.
 ومنهم من يقول: إعداد أرضي من خديجة[1]، أو من ورقة بن نوفل[2]، أو من تلقاء نفسه حيث جد واجتهد ورحل إلى الشام واليمن وتعلم من أقرانه[3] .
كل واحد جاء من خلال المذهب العلماني الوضعي الذي اعتنقه. وقدمت مناقشة مستفيضة لعباس العقاد أنفقت فيها سنوات من عمري، فقد قرأت للعقاد وعنه أكثر تسعة آلاف صفحة، وأعدت صياغة (تحرير) ما كتبت عنه أكثر من سبع مرات، وصبرت له رجاء أن تكون مناقشة عباس العقاد حالة دراسة لغيره ممن تعدوا على البعثة المحمدية بتفسيرات علمانية أرضية تأثروا فيها بغير المسلمين[4].

تغير المشهد، من قراءة لأجل المتعة النفسية، إلى رد شبهات جزئية يتحدث بها النصارى، ثم إلى الاشتباك مع المتأثرين بخطاب الكافرين، كخليل عبد الكريم، وسيد القمني، وعباس العقاد، وعمرو خالد،[5] ثم تطور المشهد إلى البحث عن الأفكار الرئيسية التي ينطلق منها الكافرون والمتأثرون بخطابهم حتى استقر عندي، بعد طول نظر فيما كتب هؤلاء، أنهم ينطلقون من ثلاثة أفكارٍ رئيسية، وهي- حسب حضورها في كتاباتهم- أولًا: القول ب"حتمية تأثير البيئة والعوامل الوراثية"، وهي الفكرة الرئيسية عندهم، وغيرها تابع لها. وقد نبتت بدايةً من رأس ابن خلدون ودوّنها في مقدمته للتاريخ، وتلقفها منه الغرب (الوضعية الغربية) وأسس عليها علم الاجتماع الغربي، ثم رددها المتأثرون بالمناهج الغربية أو بابن خلدون مباشرة. وثانيًا: القول بالصفات الشخصية الفذة التي تحلى بها النبي ،صلى الله عليه وسلم،. وثالثًا: القول بالتطور المعرفي وهؤلاء فريقان: فريق يقول بأن البعثة المحمدية (الوحي كله: أخبار وتشريعات) كانت حسب الزمان والمكان وأن على الأتباع أن يطوروا خطابهم بما يناسب زمانهم ومكانهم (ارتباط النص بالزمان والمكان)، وفريق يقول: بأن البعثة المحمدية تطورت فعليًا باختلاف الزمان والمكان فكانت نسخًا متعددة: إسلام النبي وإسلام الراشدين، وإسلام الأمويين،، وهكذا[6].
وكتبت عددًا من المقالات والأبحاث، وألقيت بعض المحاضرات أناقش هذه الفكرة الرئيسية وبعض تطبيقاتها، وهاأنذا أحاول، بحول الله وقوته، عرض شبهات المخالفين من خلال المدخل الذي اجتمعوا فيه (تأثير البيئة والعوامل الوراثية)، وأرد عليهم من خلال مقولة يسرها الله لي بعد طول تأمل في السيرة النبوية، وهي "فجائية الدعوة" ونشرت الفكرة في مقالٍ بعنوان: "فجائية الدعوة أكثر ما يؤرق المخالفين"، والآن أعود للتفصيل.

هي عزمة أردُّ بها ما أراه باطلًا عن حياض الدين ومقام سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم،، وصحابته ، رضي الله عنهم، . أحاول المساهمة في إرشاد السائرين إلى رب العالمين، طلبًا للقرب من الله، والله أسأل رشدًا، وعزيمة على الرشد، وعونًا، وبركةً. إنه كريم منان.

محمد جلال القصاص
غرة ذي الحجة 1443هـ

 

 

[1] في كتابه "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" لم يكد يخرج خليل عبد الكريم عن فكرة واحدة وهي: ادعاء أن خديجة بنت خويلد هي التي خططت للبعثة المحمدية، فهي- حسب زعمه الكاذب- التي درست النصرانية وناقشت القساوسة، ثم علّمت النبي الأميr ، وأنها هي التي خططت كليةً للبعثة، وأدارت المشهد إلى وفاتها، ووضعت الأسس للدعوة بعد وفاتها!! مع أنه يعترف بعدم وجود أي دليل على هذا في السيرة، يقول: حذفه المسلمون وهم يكتبون السيرة!!، ومع أنه- في كتابٍ آخر- يعترف بأن مجتمع مكة والمدينة كان مجتمعًا ذكوريًا، لا يعرف المرأة إلا "بضعًا". ولا أدري كيف حذفه المسلمون وعلمه هو؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم. انظر-إن شئت-:خليل عبد الكريم، فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، (القاهرة، دار مصر المحروسة، 2004).

[2] كان هذا محور كتاب "قس ونبي" لأبي موسى الحريري، (لبنان، دار لأجل المعرفة، 2005). وجوزيف قَزِّي (1937م-2022م)، قس لبناني ماروني معاصر، قدّم رؤية خاصة عن الإسلام في عديد من الكتب باسمين مستعارين اشتهر بهما، وهما "أبو موسى الحريري" و "أنور ياسين"، وغلب عليه الأسماء المستعارة لانتشار كتبه بهما. صدرت كتاباته في سلسلة من عشرين إصدارًا باسم "الحقيقة الصعبة".

[3] كان هذا هو المحور الرئيس لعمرو خالد في حلقاته "على خطى الحبيب"، وقد ناقشت هذا مفصلًا في فصل "عمرو خالد وإنكار الوحي" في كتابي "عمرو خالد: دراسة بحثية تحليلية نقدية مختصرة" انظر: http://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=9265

[4] من أشهر الأمثلة على ذلك، هذا السؤال الذي طرحه القس "جوزيف قَزّي": "هل كان محمد نبيًا مرسلًا من لدن الله ليؤسس دينًا؟ أم أنه جاء ليصلح مجتمعًا فاسدًا، فنجح، وأكسبه نجاحه نبوة؟!!) ينظر: جوزيف قزّي (أبو موسى الحريري)، نبي الرحمة: بحث في مجتمع مكة، (لبنان، دار من أجل المعرفة، 1990م)، ص7.

[5] ولا أسوي بين هؤلاء، فسيد القمني يعلن كفره، وخليل عبد الكريم يصرح بأن الوحي مصدره خديجة، رضي الله عنها، ويتطاول على الصحابة بما لم يقله أحد من قبله من المنتسبين للإسلام. والعقاد مسلم دافع عن الإسلام أحيانًا، وعمرو خالد من أهل السنة ويظهر كداعية.

[6] وممن قال بهذا وأكثر منه هشام جعيط، ومن قبله جوزيف قزي.


اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق