الاثنين، 2 يناير 2023

الإيضاح والتبيين لما وقع من مشابهة المشركين (2)

الإيضاح والتبيين لما وقع من مشابهة المشركين (2)

لقد جاءت النصوص الشرعية بتحريم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم في الأقوال والأفعال والألبسة والهيئة العامة؛ لما في ذلك من الخطر على عقيدة المسلم، وخشية أن يجره ذلك إلى استحسان ما هم عليه من الكفر والضلال..

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مخالفة المشركين

وقد كان هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مخالفًا لهدي المشركين كما في مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد رواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس ابن مخرمة مرسلاً. ولفظه: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك».

الأمر بمخالفة أعداء الله تعالى والنهي عن التشبه بهم

وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من عدة أوجه أنه كان يأمر بمخالفة أعداء الله تعالى وينهى عن التشبه بهم.

 فمن ذلك ما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب».

 ومنها ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس».

 ومنها ما في الصحيحين والمسند والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» هذا لفظهم سوى الترمذي ولفظ الترمذي: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» ثم قال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ للإمام أحمد «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى»، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وفي رواية للنسائي: «أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فأصبغوا».

 ومنها ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال: تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب».

 ومنها ما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه الطبراني في الكبير ولفظه: «صلوا في نعالكم ولا تشبهوا باليهود».

 ومنها ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علي ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها»، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: «إياكم والتنعم وزي أهل الشرك» ورواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح ولفظه: «ذروا التنعم وزي العجم» ورواه أيضًا في كتاب الزهد بإسناد صحيح، ولفظه: «إياكم وزي الأعاجم ونعيمها».

التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع

قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: النهي عن التشبه بالعجم للتحريم.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع. وقال أيضًا إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديمًا وحديثًا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب في الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم.

وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى كما في المسند وسنن أبي داود وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» صححه ابن حبان.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني إسناده حسن. قال شيخ الإسلام وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث. قال وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وقال الشيخ أيضًا في موضع آخر قوله – صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا انتهى.

وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى».

قال ابن مفلح في قوله: ليس منا، هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى.

وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عقيل بن مدرك السلمي قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل قل لقومك: لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي. وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.

أبغض الناس إلى الله ثلاثة

وروى الخلال عن حذيفة رضي الله عنه أنه أتى بيتًا فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم. وتقدم ما رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه».

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر – صلى الله عليه وسلم – أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر. وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل، ونوع يتعلق بمحل العمل. فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية، وأما المتعلق بمحل العمل فالإلحاد في الحرم؛ لأن أعظم محال العمل هو الحرم، وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني – إلى أن قال- والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث، والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي: العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم انتهى.

من تشبه بقوم فهو منهم

وقال أيضا: في الكلام على قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم»، قد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك، وبكل حال فهو يقتضي تحريم التشبه بهم بعلة كونه تشبها. والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر. لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب، مع أن قوله – صلى الله عليه وسلم -: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية وقد روي في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، ذكره القاضي أبو يعلى، وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين. قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال: إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس، وأكره الصرار قال: وهو من زي الأعاجم. وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال: زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة.

من نتائج التشبه بأعداء الله تعالى وثمراته

وقال الشيخ رحمه الله تعالى أيضًا: قد بعث الله عبده ورسوله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور:

منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.

ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة تتوجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.

وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.

ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له.

وقال الشيخ أيضا: مشاركتهم في الهدي الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببًا قريبًا أو بعيدًا إلى نوع ما من الموالاة والمودة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة.

وقال الشيخ أيضًا: المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكل في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام. والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس. قال والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة انتهى.

وما ذكره رحمه الله تعالى من نتائج التشبه بأعداء الله تعالى وثمراته السيئة كله واقع في زماننا، ولا سيما مواصلة أعداء الله تعالى ومؤاخاتهم وموالاتهم وموادتهم ومحبتهم والاختلاط التام بهم في بعض الأقطار بحيث قد ارتفع فيها التمييز ظاهرًا بين المسلم والكافر فلا يعرف هذا من هذا إلا من كان يعرفهم بأعيانهم، وقد قادت هذه الموافقة والمشابهة كثيرًا من الناس إلى النفاق وكثيرًا منهم إلى الردة والخروج من دين الإسلام عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.

المصدر

كتاب: “الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين” ص15-22، حمود بن عبد الله التويجري.

اقرأ أيضا


الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين (1)

تحريم التشبه بالكفار وموالاتهم

الولاء والبراء على أساس العقيدة من هدي الأنبياء

حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق