شبكة الأسافل (الخيانة كوجهة نظر- 2)
جمال الجمل
(متلازمة الخسة)
لماذا يحتاج الحكام إلى الأسافل والأراذل والغواني والأقذار؟
كنت على صلة وثيقة بواحد من قادة السياسة، كان يتصرف بدماثة خلق وأدب ملحوظ، لكنه كان حريصا على الاستعانة بأسوأ الناس، وكنت أتصور أن الرجل لا يعرف الحقيقة المنحطّة للمساعدين والمكلفين، لكن بعد فترة من الوقت تيقنت أنه يعرف جيدا، ويقصد الاستعانة بهؤلاء الأوغاد: إنهم يفعلون كل ما يخطر بباله من أخطاء وجرائم في الوقت الذي تظل يده نظيفة.
وهذا مما يخدع الناس فيقولون: "راجل كويس بس اللي حواليه وحشين"، والميزة الأمنية المفهومة أنه عند أي مشكلة من السهل إلقاء النفايات على "النفايات"، فمن مميزات الأسافل أنهم يقبلون المهانة، والاحتقار، والسجن إذا اقتضت الضرورة، ويعرف "الأقذار" أن لهم بعد كل محنة "مكافأة" و"دورا جديدا" وتوظيفا مثمرا لا يستغني عنه الحاكم "الشريف أوي" و"الصادق أوي" و"الأمين أوي"!
(الشراء الغريب)
كلمة "الأمين" ذكرتني برجل الأعمال والإعلام "محمد الأمين" الذي مات في الحبس متهما بجريمة مخلة بالشرف، وبرغم حساسية الكتابة عن رجل لم يعد يستطيع الدفاع عن نفسه، إلا أنني أؤمن تماما بأن الموت لا يجعل من الشخص السيئ "شخصا صالحا"، ولذلك فإن النقد العام مباح طالما لا ينتهك الحقوق الشخصية ولا ينزلق إلى الحياة العائلية، أما النقد في الشأن العام فلا حدود له عندي إلا تحري الحقيقة ومصلحة البلاد وناس البلاد..
لا تهمني هنا القضية التي عوقب "الأمين" بسببها؛ من النظام الذي قدم له الخدمات، لكن يهمني الإشارة إلى السؤال الذي شغلني أثناء سريان ثورة يناير، فكلنا يعرف أن "رأس المال جبان"، لذا من المنطقي أن تهرب الأموال من البلدان التي تشهد ثورات وتقلبات وظروفا أمنية واقتصادية غير مستقرة، لكننا فوجئنا بدفع أموال ضخمة لتأسيس قنوات تلفزيونية ومنابر إعلامية جديدة في أوج "الفوضى" التي كان النظام يحذر منها وينشر الجيش ويسد الطرقات بالمتاريس..
وكان السؤال الطبيعي المشحون بالتعجب والريبة: كيف هذا؟ ولماذا؟!!
كان شعار "تطهير الإعلام" من أبرز الشعارات التي شهدتها ميادين الثورة، لكن سرعان ما أثبتت الأحداث أن "الأطراف الخفية" التي تلعب في الساحة لجأت إلى "الأراذل" ودعمت تمكينهم من الإعلام. وكنا نتصور أن الثورة ستكنس مخلفات الإعلام القديم في الإدارة والتقديم والضيوف، من أمثال محمد فودة وتوفيق عكاشة وخالد صلاح وأحمد موسى وكرم جبر والمناوي وأحمد الزند ومرتضى منصور ولميس جابر وسامح الطرابلسي وغيرهم، وكنا نتصور أن "ماسبيرو" إلى زوال، بعد إعادة الهيكلة وتصحيح مسار اتحاد الإذاعة والتلفزيون وجوقة الصحف الرسمية التي تنفق عليها الدولة، لكن بدلا من إغلاق المؤسسات الفاسدة، تم شراء المزيد من الصحف وافتتاح العديد من الشاشات والمواقع الالكترونية، بل وتأسيس كتائب للتأثير على نوافذ التعليقات في مواقع الصحف وبرامج التواصل الاجتماعي.
(من يدفع للطبال؟)
يمكننا بسهولة تخمين "الطرف" الذي يدير عملية الهيمنة على الإعلام وتحديد اتجاهه ولغته وقضاياه ومجال تأثيره، وهذا هو الموضوع الذي يتناوله المقال من خلال استرجاع قصة "بولو باشا" مع حاكم مصر في بدايات القرن العشرين. وكنا في المقال السابق قد عرفنا أن "بولو" تم إعدامه بعد محاكمة شهيرة اتهم فيها عدد من النواب الفرنسيين ورئيس الوزراء "جوزيف كايو"، وذلك بعد شهور قليلة من إعدام "ماتا هاري" أشهر جاسوسة في التاريخ الحديث.
وفي هذا المقال نتعرف على التفاصيل التي أدت إلى إعدام رجل وثيق الصلة بكبار رجال السلطة، في الوقت الذي أدين فيه رئيس الوزراء واكتفت المحكمة بحكم مخفف بالسجن ثلاث سنوات، كان قد قضاها بالفعل فخرج حرا بعد الحكم مباشرة. وبرغم تضمن الحكم قرارا بنفيه خارج فرنسا لمدة خمس سنوات ومنعه من تولي الوظائف العامة والعمل بالسياسة لعشر سنوات، وبرغم اتهامه في قضية اغتيال صحفي في صحيفة "لوفيجارو"، أطلقت عليه أونرييت (زوجة كايو) النار بسبب نشر أسرار عن حياتهما العائلية، ومع ذلك حصل رئيس الوزراء المُقال على البراءة هو وزوجته القاتلة، وبعد فترة قصيرة من الحكم في قضية التجسس تم رد اعتباره، وعاد للعمل بالسياسة وتقلد الوظائف العامة، وكأن تجسس الكبار مغفور، طالما قدمت السلطة كبش فداء من "الأسافل" لترضية الرأي العام!
(شبكة النجاسة)
كان كمال الشاذلي (وزير البرلمان الشهير في عصر مبارك) يردد دوما مقولة "السياسة نجاسة"، كترجمة شعبية لمبدأ ميكافيللي الشهير "الغايات تغفر الوسائل"، ومن هذه النظرة ارتبطت "العمليات القذرة" بالسياسة والحكم، وصار من المألوف أن يجتمع السياسي والعاهرة والقواد والمحتال وشهود الزور، تحت غطاء "المصلحة الوطنية"، و"حماية الأمن القومي".
وتحضرني هنا مقولة لاذعة للمخرج الفرنسي المتميز "جان لوك جودار"، يسخر فيها من السينما التجارية وخلطة أفلام "الكاوبوي"، فيقول: كل ما تحتاجه لصناعة فيلم من هذه النوعية هو: حسناء وبندقية. والترجمة السياسية لمقولة جودار تكشف لنا العناصر المطلوبة لصناعة "عصبة الحكم" في "الدول الهشة": كل ما تحتاجه هو: قواد وحسناء وبندقية.
ولعل قضية فساد محافظ الجيزة الأسبق المستشار ماهر الجندي تكشف لنا طبيعة تكوين شبكات الفساد السياسي في مصر: "مسؤول سياسي وغانية وقواد ورشاوى مالية وجنسية".
وقد حصلت الفنانة منّة شلبي على حكم مخفف مع إيقاف التنفيذ في قضية المخدرات. وهكذا تفسح السلطة صدرها لنجوم الفن والرياضة، فالشبكة تتسع لكل من يقبل التوظيف في اللعبة حسب قواعدها، وحتى لو أصابته شظايا أثناء القضايا (كما حدث مع "فودة" الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، وغرامة ثلاثة ملايين جنيه)، إلا أن السلطة تعتمد على "ذاكرة السمكة" وتعيد تدوير "النفايات" في أشكال وأدوار جديدة، ولا داعي للخجل أو الاستغفار، فالتعريف "الشاذلي" للسياسة يخبرنا بأن "السياسة تبيح النجاسة"، أو كما يقول المثل الشعبي المصري: إذا خرج العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب".
ومن هذه المقدمة المحلية لقضية "بولو" نفهم أن هذا المقال التاريخي مجرد "قناع رمزي" لفهم آليات عمل السياسة في الأنظمة الفاسدة. وأهمية ذلك "التجريد" أنه يساعدنا على الإمساك بـ"قواعد الفساد" و"عناصر الشبكة" مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة والأسماء.
(عباس اسمه مريم)
كنت أبحث عن حقيقة الجاسوسة الغامضة "عزيزة دي روشبيرون"، ووقعت عيني على وثيقة في المكتبة الوطنية الفرنسية (بتاريخ 13 نيسان/ أبريل 1919) تتضمن معلومة مدهشة تقول إن حاكم مصر الأسبق "الخديوي عباس الثاني" كان اسمه "مريم".
كنت أعرف المعلومة الشائعة التي تقول إن الخديوي سعى في بداية حكمه لتأسيس "تنظيم سري" يستهدف الاتصال بالنخبة العلمية والوطنية في بر مصر، للاستعانة بهم في صراعه مع المندوب الإنجليزي، وأطلق عباس على التنظيم اسم "جمعية أحباء الوطن السرية"، واختار قادة الجمعية أسماء مستعارة لتأمين نشاطهم، فاختار الخديوي اسم "الشيخ"، واختار لطفي السيد اسم "أبو مسلم"، واختار مصطفى كامل اسم "أبو الفدا" (حسب رواية لطفي السيد في مذكراته).
وبرغم غرابة اختيار الحاكم لاسم مستعار في نشاط داخل بلده، إلا أن اختيار اسم امرأة للحاكم يبدو أكثر غرابة وأكثر إثارة للدهشة، وبمتابعة قراءة الوثيقة، عرفت أن "بولو باشا" وراء التسمية الغريبة، كجزء من حكاية شيّقة سنحكيها في موضعها، لكن قبل ختام المقال لا بد وأن نسأل لتنشيط التفكير:
من هو بولو؟ وكيف صار باشا؟
وما هي الأسرار التي توثق العلاقة بين حاكم مصر ومحتال يتاجر بالخمور والنساء؟
ثم يأتي السؤال عن سبب إطلاق اسم "مريم" على الخديوي عباس، وقبوله للاسم في المراسلات والاتصالات؟
(أمير الخفاء)
أطلقت الصحف الشعبية الإنجليزية على حاكم مصر الشاب "عباس الثاني" لقب "أمير الخفاء"، وكشفت أنه يحرص على زيارة باريس في مطلع الصيف من كل عام، لارتياد الملاهي الليلية والمطاعم الفاخرة متخفياً. وكانت باريس في ذلك الوقت قد اشتهرت بافتتاح كباريهات المتعة من عيّنة "الطاحونة الحمراء" و"مطعم مكسيم"، وصارت هذه الأماكن ملتقى للنخب السياسية والاقتصادية والفنية. وفي إحدى زياراته تعرف الخديوي على فتاة من فتيات الملاهي قدمت له نفسها باسم مستعار هو "أندريه دي لوزانج"، وأعجب بها عباس واصطحبها معه إلى مصر على متن اليخت الملكي، من دون أن يعرف عنها غير ما قالته له!
وكان عباس قد تعرف قبل ذلك بسنوات على كونتيسة مجرية شابة تدعى "ماي تورك" ودعاها إلى القاهرة، ثم تزوجها وخصص لها قصرا في أطراف القاهرة، بعيدا عن مقر إقامة زوجته الأولى التي كانت جارية لأمه، وتزوج منها بعدما أنجبت له طفله الأول. وكانت ماي سليلة أسرة أرستقراطية في الإمبراطورية التي توحدت فيها النمسا والمجر معاً، وكانت قد التقت بالأمير عباس لأول مرة عندما كان يدرس في أكاديمية الإمبراطورة تريز العسكرية في النمسا، حيث كانت ماي مدعوة إلى حفل في الأكاديمية التي يدرس فيها شقيقها جوزيف (زميل عباس في الدراسة)، ثم حدث اللقاء الثاني بالصدفة في بهو أحد الفنادق الكبرى في باريس، وانتهى بزواج رسمي وثيق، حتى أن ماي التي غيّرت اسمها إلى "جويدان" أو "جافيدان هانم" بالتركية كانت تتنكر وترافق الخديوي في قصر الحكم وأثناء افتتاحه للمشروعات وسفرياته خارج البلاد.
لذلك، لما علمت ماي بعودة عباس من باريس ومعه الفتاة الفرنسية الغامضة، اعترضت وانتهى قرارها إلى طلب الطلاق وتسوية الأمور المالية والعودة إلى أوروبا. وحدث الطلاق عام 1913، قبل عام واحد من عزل الإنجليز لحاكم مصر، وقد شهد ذلك العام أحداثا دراماتيكية متصاعدة، منها لقاء الخديوي مع "بولو" وتطور العلاقة إلى صداقة ثم شراكة في مهام سرية لتأمين تهريب ثروة الخديوي المعزول من مصر، واستثمار علاقته بالألمان لتنفيذ مهام استخباراتية لشراء الصحف والتأثير على توجهات الإعلام في فرنسا.
لكن كيف تعرف "بولو" على الخديوي؟ ومن تكون "أندريه دي لوزانج" التي لازمت الخديوي كرفيقة حتى وفاتها في الأربعينات، وورد اسمها في قضية التجسس الشهيرة باعتبارها متعاونة مع الألمان وخائنة لبلادها؟..
للقصة بقية، وفي المقال المقبل نواصل الحكايات.
tamahi@hotmail.com
لماذا يحتاج الحكام إلى الأسافل والأراذل والغواني والأقذار؟
كنت على صلة وثيقة بواحد من قادة السياسة، كان يتصرف بدماثة خلق وأدب ملحوظ، لكنه كان حريصا على الاستعانة بأسوأ الناس، وكنت أتصور أن الرجل لا يعرف الحقيقة المنحطّة للمساعدين والمكلفين، لكن بعد فترة من الوقت تيقنت أنه يعرف جيدا، ويقصد الاستعانة بهؤلاء الأوغاد: إنهم يفعلون كل ما يخطر بباله من أخطاء وجرائم في الوقت الذي تظل يده نظيفة.
وهذا مما يخدع الناس فيقولون: "راجل كويس بس اللي حواليه وحشين"، والميزة الأمنية المفهومة أنه عند أي مشكلة من السهل إلقاء النفايات على "النفايات"، فمن مميزات الأسافل أنهم يقبلون المهانة، والاحتقار، والسجن إذا اقتضت الضرورة، ويعرف "الأقذار" أن لهم بعد كل محنة "مكافأة" و"دورا جديدا" وتوظيفا مثمرا لا يستغني عنه الحاكم "الشريف أوي" و"الصادق أوي" و"الأمين أوي"!
(الشراء الغريب)
كلمة "الأمين" ذكرتني برجل الأعمال والإعلام "محمد الأمين" الذي مات في الحبس متهما بجريمة مخلة بالشرف، وبرغم حساسية الكتابة عن رجل لم يعد يستطيع الدفاع عن نفسه، إلا أنني أؤمن تماما بأن الموت لا يجعل من الشخص السيئ "شخصا صالحا"، ولذلك فإن النقد العام مباح طالما لا ينتهك الحقوق الشخصية ولا ينزلق إلى الحياة العائلية، أما النقد في الشأن العام فلا حدود له عندي إلا تحري الحقيقة ومصلحة البلاد وناس البلاد..
لا تهمني هنا القضية التي عوقب "الأمين" بسببها؛ من النظام الذي قدم له الخدمات، لكن يهمني الإشارة إلى السؤال الذي شغلني أثناء سريان ثورة يناير، فكلنا يعرف أن "رأس المال جبان"، لذا من المنطقي أن تهرب الأموال من البلدان التي تشهد ثورات وتقلبات وظروفا أمنية واقتصادية غير مستقرة، لكننا فوجئنا بدفع أموال ضخمة لتأسيس قنوات تلفزيونية ومنابر إعلامية جديدة في أوج "الفوضى" التي كان النظام يحذر منها وينشر الجيش ويسد الطرقات بالمتاريس..
وكان السؤال الطبيعي المشحون بالتعجب والريبة: كيف هذا؟ ولماذا؟!!
كان شعار "تطهير الإعلام" من أبرز الشعارات التي شهدتها ميادين الثورة، لكن سرعان ما أثبتت الأحداث أن "الأطراف الخفية" التي تلعب في الساحة لجأت إلى "الأراذل" ودعمت تمكينهم من الإعلام. وكنا نتصور أن الثورة ستكنس مخلفات الإعلام القديم في الإدارة والتقديم والضيوف، من أمثال محمد فودة وتوفيق عكاشة وخالد صلاح وأحمد موسى وكرم جبر والمناوي وأحمد الزند ومرتضى منصور ولميس جابر وسامح الطرابلسي وغيرهم، وكنا نتصور أن "ماسبيرو" إلى زوال، بعد إعادة الهيكلة وتصحيح مسار اتحاد الإذاعة والتلفزيون وجوقة الصحف الرسمية التي تنفق عليها الدولة، لكن بدلا من إغلاق المؤسسات الفاسدة، تم شراء المزيد من الصحف وافتتاح العديد من الشاشات والمواقع الالكترونية، بل وتأسيس كتائب للتأثير على نوافذ التعليقات في مواقع الصحف وبرامج التواصل الاجتماعي.
(من يدفع للطبال؟)
يمكننا بسهولة تخمين "الطرف" الذي يدير عملية الهيمنة على الإعلام وتحديد اتجاهه ولغته وقضاياه ومجال تأثيره، وهذا هو الموضوع الذي يتناوله المقال من خلال استرجاع قصة "بولو باشا" مع حاكم مصر في بدايات القرن العشرين. وكنا في المقال السابق قد عرفنا أن "بولو" تم إعدامه بعد محاكمة شهيرة اتهم فيها عدد من النواب الفرنسيين ورئيس الوزراء "جوزيف كايو"، وذلك بعد شهور قليلة من إعدام "ماتا هاري" أشهر جاسوسة في التاريخ الحديث.
وفي هذا المقال نتعرف على التفاصيل التي أدت إلى إعدام رجل وثيق الصلة بكبار رجال السلطة، في الوقت الذي أدين فيه رئيس الوزراء واكتفت المحكمة بحكم مخفف بالسجن ثلاث سنوات، كان قد قضاها بالفعل فخرج حرا بعد الحكم مباشرة. وبرغم تضمن الحكم قرارا بنفيه خارج فرنسا لمدة خمس سنوات ومنعه من تولي الوظائف العامة والعمل بالسياسة لعشر سنوات، وبرغم اتهامه في قضية اغتيال صحفي في صحيفة "لوفيجارو"، أطلقت عليه أونرييت (زوجة كايو) النار بسبب نشر أسرار عن حياتهما العائلية، ومع ذلك حصل رئيس الوزراء المُقال على البراءة هو وزوجته القاتلة، وبعد فترة قصيرة من الحكم في قضية التجسس تم رد اعتباره، وعاد للعمل بالسياسة وتقلد الوظائف العامة، وكأن تجسس الكبار مغفور، طالما قدمت السلطة كبش فداء من "الأسافل" لترضية الرأي العام!
(شبكة النجاسة)
كان كمال الشاذلي (وزير البرلمان الشهير في عصر مبارك) يردد دوما مقولة "السياسة نجاسة"، كترجمة شعبية لمبدأ ميكافيللي الشهير "الغايات تغفر الوسائل"، ومن هذه النظرة ارتبطت "العمليات القذرة" بالسياسة والحكم، وصار من المألوف أن يجتمع السياسي والعاهرة والقواد والمحتال وشهود الزور، تحت غطاء "المصلحة الوطنية"، و"حماية الأمن القومي".
وتحضرني هنا مقولة لاذعة للمخرج الفرنسي المتميز "جان لوك جودار"، يسخر فيها من السينما التجارية وخلطة أفلام "الكاوبوي"، فيقول: كل ما تحتاجه لصناعة فيلم من هذه النوعية هو: حسناء وبندقية. والترجمة السياسية لمقولة جودار تكشف لنا العناصر المطلوبة لصناعة "عصبة الحكم" في "الدول الهشة": كل ما تحتاجه هو: قواد وحسناء وبندقية.
ولعل قضية فساد محافظ الجيزة الأسبق المستشار ماهر الجندي تكشف لنا طبيعة تكوين شبكات الفساد السياسي في مصر: "مسؤول سياسي وغانية وقواد ورشاوى مالية وجنسية".
وقد حصلت الفنانة منّة شلبي على حكم مخفف مع إيقاف التنفيذ في قضية المخدرات. وهكذا تفسح السلطة صدرها لنجوم الفن والرياضة، فالشبكة تتسع لكل من يقبل التوظيف في اللعبة حسب قواعدها، وحتى لو أصابته شظايا أثناء القضايا (كما حدث مع "فودة" الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، وغرامة ثلاثة ملايين جنيه)، إلا أن السلطة تعتمد على "ذاكرة السمكة" وتعيد تدوير "النفايات" في أشكال وأدوار جديدة، ولا داعي للخجل أو الاستغفار، فالتعريف "الشاذلي" للسياسة يخبرنا بأن "السياسة تبيح النجاسة"، أو كما يقول المثل الشعبي المصري: إذا خرج العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب".
ومن هذه المقدمة المحلية لقضية "بولو" نفهم أن هذا المقال التاريخي مجرد "قناع رمزي" لفهم آليات عمل السياسة في الأنظمة الفاسدة. وأهمية ذلك "التجريد" أنه يساعدنا على الإمساك بـ"قواعد الفساد" و"عناصر الشبكة" مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة والأسماء.
(عباس اسمه مريم)
كنت أبحث عن حقيقة الجاسوسة الغامضة "عزيزة دي روشبيرون"، ووقعت عيني على وثيقة في المكتبة الوطنية الفرنسية (بتاريخ 13 نيسان/ أبريل 1919) تتضمن معلومة مدهشة تقول إن حاكم مصر الأسبق "الخديوي عباس الثاني" كان اسمه "مريم".
كنت أعرف المعلومة الشائعة التي تقول إن الخديوي سعى في بداية حكمه لتأسيس "تنظيم سري" يستهدف الاتصال بالنخبة العلمية والوطنية في بر مصر، للاستعانة بهم في صراعه مع المندوب الإنجليزي، وأطلق عباس على التنظيم اسم "جمعية أحباء الوطن السرية"، واختار قادة الجمعية أسماء مستعارة لتأمين نشاطهم، فاختار الخديوي اسم "الشيخ"، واختار لطفي السيد اسم "أبو مسلم"، واختار مصطفى كامل اسم "أبو الفدا" (حسب رواية لطفي السيد في مذكراته).
وبرغم غرابة اختيار الحاكم لاسم مستعار في نشاط داخل بلده، إلا أن اختيار اسم امرأة للحاكم يبدو أكثر غرابة وأكثر إثارة للدهشة، وبمتابعة قراءة الوثيقة، عرفت أن "بولو باشا" وراء التسمية الغريبة، كجزء من حكاية شيّقة سنحكيها في موضعها، لكن قبل ختام المقال لا بد وأن نسأل لتنشيط التفكير:
من هو بولو؟ وكيف صار باشا؟
وما هي الأسرار التي توثق العلاقة بين حاكم مصر ومحتال يتاجر بالخمور والنساء؟
ثم يأتي السؤال عن سبب إطلاق اسم "مريم" على الخديوي عباس، وقبوله للاسم في المراسلات والاتصالات؟
(أمير الخفاء)
أطلقت الصحف الشعبية الإنجليزية على حاكم مصر الشاب "عباس الثاني" لقب "أمير الخفاء"، وكشفت أنه يحرص على زيارة باريس في مطلع الصيف من كل عام، لارتياد الملاهي الليلية والمطاعم الفاخرة متخفياً. وكانت باريس في ذلك الوقت قد اشتهرت بافتتاح كباريهات المتعة من عيّنة "الطاحونة الحمراء" و"مطعم مكسيم"، وصارت هذه الأماكن ملتقى للنخب السياسية والاقتصادية والفنية. وفي إحدى زياراته تعرف الخديوي على فتاة من فتيات الملاهي قدمت له نفسها باسم مستعار هو "أندريه دي لوزانج"، وأعجب بها عباس واصطحبها معه إلى مصر على متن اليخت الملكي، من دون أن يعرف عنها غير ما قالته له!
وكان عباس قد تعرف قبل ذلك بسنوات على كونتيسة مجرية شابة تدعى "ماي تورك" ودعاها إلى القاهرة، ثم تزوجها وخصص لها قصرا في أطراف القاهرة، بعيدا عن مقر إقامة زوجته الأولى التي كانت جارية لأمه، وتزوج منها بعدما أنجبت له طفله الأول. وكانت ماي سليلة أسرة أرستقراطية في الإمبراطورية التي توحدت فيها النمسا والمجر معاً، وكانت قد التقت بالأمير عباس لأول مرة عندما كان يدرس في أكاديمية الإمبراطورة تريز العسكرية في النمسا، حيث كانت ماي مدعوة إلى حفل في الأكاديمية التي يدرس فيها شقيقها جوزيف (زميل عباس في الدراسة)، ثم حدث اللقاء الثاني بالصدفة في بهو أحد الفنادق الكبرى في باريس، وانتهى بزواج رسمي وثيق، حتى أن ماي التي غيّرت اسمها إلى "جويدان" أو "جافيدان هانم" بالتركية كانت تتنكر وترافق الخديوي في قصر الحكم وأثناء افتتاحه للمشروعات وسفرياته خارج البلاد.
لذلك، لما علمت ماي بعودة عباس من باريس ومعه الفتاة الفرنسية الغامضة، اعترضت وانتهى قرارها إلى طلب الطلاق وتسوية الأمور المالية والعودة إلى أوروبا. وحدث الطلاق عام 1913، قبل عام واحد من عزل الإنجليز لحاكم مصر، وقد شهد ذلك العام أحداثا دراماتيكية متصاعدة، منها لقاء الخديوي مع "بولو" وتطور العلاقة إلى صداقة ثم شراكة في مهام سرية لتأمين تهريب ثروة الخديوي المعزول من مصر، واستثمار علاقته بالألمان لتنفيذ مهام استخباراتية لشراء الصحف والتأثير على توجهات الإعلام في فرنسا.
لكن كيف تعرف "بولو" على الخديوي؟ ومن تكون "أندريه دي لوزانج" التي لازمت الخديوي كرفيقة حتى وفاتها في الأربعينات، وورد اسمها في قضية التجسس الشهيرة باعتبارها متعاونة مع الألمان وخائنة لبلادها؟..
للقصة بقية، وفي المقال المقبل نواصل الحكايات.
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق