حين ينحر العلم على عتبات الخصومات!
رغم حجم الأسى والظلم والطغيان الذي تعاني منه الأمة، رغم حجم الجهل والتخلف العقدي والخلقي! يقضي البعض وقته في معارك “دنكشوتية” يحسبون أنفسهم يحسنون صنعا، إنه تمام الغبن والحرمان، ولو لبس لبوس العلم وإنكار المنكر، فليس علما الذي ينغمس فيه طلبته تكلفا للجزم بخاتمة رجال أفضوا إلى ربهم منذ قرون!
تُهدر ساعات وأيام وشهور في معارك “التكلف” وهدر المشاعر والأعصاب والنفسيات والخصومات في لا شيء! حرفيا لا شيء! يتنازعون في أسماء الرجال، والأمة تنحر من الوريد! يتناحرون على أسماء الرجال بخسا وتمجيدا، والناس تشرك بالله والبدع تتضخم والغرب يرسل حملاته لهدم الدين والفطرة! فأي حرمان هذا وأي غبن!
لقد كشفت هذه المعارك التي أضحت مصيرية عند البعض، أصبحت قضية حياة أو موت، أصبحت أصلا في الدين، ووسيلة لإلقاء أحكام الكفر والإيمان لأجل رجال متنازع عليهم، حجم الجهل الذي يترعرع في ساحات تسمى ساحات العلم! فُقد التأصيل الراسخ، فُقدت المنهجية، فُقدت الغاية، فُقد العلم! وغلبت حظوظ النفس!
طلاب علم اتخذوا من السخرية والإسقاط التام والبخس والغمط منهجا ومن “أمن مكر الله” غفلة، اتخذوا من تضييع أمانة العلم والخشية، وسيلة، للنيل من بعضهم البعض، وهذا إن دل فإنه يدل على بعد العلم عنهم وبعد الفقه والبصيرة. فالعلم منظومة متكاملة، ونور الله لا يُهدى لمن أسرف في نصرة حظ نفسه.
العلم أصول وقواعد، وليس اجتزاء، وليس التفافا، وليس تحايلا ومخادعة، وقد فقه ذلك أئمة الإسلام على مر العصور والأزمنة فكانت منهجيتهم المتوارثة: نصرة الحق أينما كان ورد الباطل أينما كان، ولم تكن هذه القاعدة يُستثنى منها أحد، لأن الله أمر بالعدل والتقوى وما يجري اليوم هو الخسف والهدم.
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله – فارس المناظرات والمبارزة العلمية-: “فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها”. (مدارج السالكين 2/39 )
العلم ليس مجرد اقتباسات من آثار السلف ورميها في وجه المخالف! العلم تأصيل يأخذ بعين الاعتبار فقه الواقع، وفارق الزمن. والسلف لو كانوا معنا الآن لما أهملوا فقه الواقع كما لم يفعل الإمام أحمد رحمه الله، حين كان تحت حكم الجهمية! لأنه كان عالما ربانيا، تحمل الأذى لإظهار الحق لكنه لم يفتن الأمة!
وكذلك كان ابن تيمية وابن القيم مع حجم المعارك التي خاضوها مع المبتدعة لم يحاربوهم محاربة الطغيان، وكل من قرأ لهم يعلم كيف كانت غايتهم الهداية وليس “النكاية”. ولذلك بارك الله في زرعهم وامتد عصورا بعدهم ولا يزال أثرهم مؤثرا كما نحسبهم، لكن الجهل بسنن الله في العلم كارثة تمتد!
ما فائدة شغل طلاب العلم الصغار في معارك عن شخص أبو حنيفة؟! قد أفضى إلى ربه، وقام بعده مذهب بإجماع أئمة أهل السنة وهذا ثابت ومن ينكره مجرد مجادل بالباطل. حتى أصبح البعض مجرد أن يرى لفظ “حنفي” ينتقد الاستشهاد وكأن المذهب الحنفي قام على أبو حنيفة وحده ولم يقره الحنابلة والشافعية والمالكية!
ويعتقد البعض أن الانغماس في هذه المعركة للجزم بخاتمة أبو حنيفة نصر للسنة، وهذا من تلبيس إبليس، فذم أبو حنيفة لن يسقط مذهب الأحناف، الذي يتبعه ملايين المسلمين اليوم! ولن يسقط آلاف النصوص والكتب التي تتناول فقه المذاهب الأربعة المتفق عليها، لن يسقط عقودا من الميراث العلمي والمناقشات.
نحن أمام فقه الواقع، وفقه الواقع لو كان السلف معنا اليوم ورأوا أن هناك مذهبا كاملا للأحناف، لكانت منهجيتهم التي تعلمناها من كتب الأئمة ورثة العلم من بعدهم، إحقاق الحق وإبطال الباطل وهذا ما يستفيد منه الناس، ولا أخال هذه الأمانة ضيعها من سبقنا ومن يعتقد ذلك فقد هدم بنيان العلم منذ السلف.
إن الربانية في العلم لا تعني التشنج عند ذكر اسم رجل توفي منذ قرون، إنما تقتضي أن ننظر في ما حدث بعده والمذهب الذي قام بجهود ورثته، ورد الباطل فيه وإقرار الحق فيه، وهذا أمر قام به أفذاذ الأمة من لم يخونوا الأمانة وهو مبسوط في كتب العلم والفقه لكن الجهل بذلك يورث سوء الظن والظلم.
وأسوأ ما يقع فيه طالب العلم انتهاج “منهج الذباب” فلا يقع في سير الرجال ونتاجهم إلا على السيء ونفسه تكره الاطلاع على حسنة فيهم ولا حتى الاعتراف بحق ظهر على ألسنتهم، وهذا إن دل فإنما يدل على منهجية جديدة تكونت مع مواقع التوصل، سطحية تائهة لا بوصلة لها ولا غاية، تعتقد أنها سبقت بكشف ما غاب!
يقول الله تعالى: {أوفوا الكيل ولا تَكونُوا من المخسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفْسِدِين}
لذلك نشدد دائما: لو أن طلبة العلم المنغمسين في هذه المعارك حفظوا جزء من القرآن لكان أنفع لهم من كل هذا التكلف!
قال تعالى {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قال ابن تيمية في تعليقه على هذه الآية في اقتضاء الصراط المستقيم: “فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه وأنت تجد كثيرا من المتفقهة، إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا، وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة طائفة من الصوفية يظهرون -الفقر- لا يرى الشريعة والعلم شيئا، بل يرى أن المتمسك بها منقطعا عن الله وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئا. وإنما الصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل”.انتهى
وهذا المنهج الذي كان عليه السلف الصالح وورثة العلم على امتداد الأزمنة والعصور. لا جديد في العلم، قواعده مبسوطة وفضله يؤتيه الله من يشاء.
فالخوض في أسماء الرجال وافتعال المعارك عليها لتمييز الرجال على أساس البدعة والسنة، بدعة أخرى محدثة في زماننا، فما كان العلماء يمتحنون الناس في الرجال، وقد يختلف العلماء في تقييم الرجال وهذا ثابت في الجرح والتعديل ولكنه “الترف العلمي” في زماننا، يسوق صغار العلم لحفر الجدل البيزنطي!
والمبتلى بهذا الجدل الفلسفي، يعظم الأمر حتى يجعله أصلا في الدين ودفاعا عن السلف، وهو لا يدري أنه لم ياخذ من كتب السلف إلا أثارا مجتزأة من سياق الواقع الذي نعيشه وأنه بدل أن يصلح يفتن! ويفتح بابا لفريق آخر يرى التعظيم منهجا، وتحتدم المعارك الفاشلة، وتتراكم الطعونات في النوايا لكل خطأ!
ثم فريق آخر، لا يقبل أن يمس اسم عالم ممن يقدسون، ويخوضون المعارك بمثالية أخرى! فهم لا يقبلون الاعتراف بضعف أو خطأ أو انحراف ولو كان مخالفا لكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وفيه برهان، إنما دورهم الدفاع المستميت، بغض النظر عن الدوافع، دفاع داس على كثير من الحق وتماهى مع الباطل!
ومن يتأمل الردود بصمت يرى تلك الفجوة العظيمة التي غابت فيها البصيرة وكيف تأتي البصيرة لقوم أوكلوا إلى أنفسهم! حين تحولت الغاية، إلى إسقاط أسماء ونصرة أسماء! وضاع الحق في الأثناء وانتفش الباطل بتصفيقات الأنصار، من يتأمل يجد أن هناك مساحة فارغة بين الفريقين، لا يبصرونها، وهي “المنهجية”.
إن الاختلاف حين يكون يقوم على منهجية علمية معلومة عند أئمة السنة، ينزل كل هذا الغبار ولا تبقى إلا اللبنات التي وضعت بتقوى لتبيان الحق، من كلا الطرفين، لكننا أمام عقلية “التواصل” و”فرق المناصرة العمياء” الويل لمن يعترف بحق عند الآخر، والقضية تحولت لـ “شللية” والكل محسوب على الآخر!
في هذه الأثناء قلة تعمل على ثغور العلم، العلم الذي تحتاجه الأمة، العلم الذي يربيها على الحق، ويرسخه في صدرها، العلم الذي ينتشلها من التخلف العقدي والخلقي ويصنع منها نماذج أقرب للسلف فعلا وقولا وسلوكا! ومصابنا كبير جدا حين نفتقد هذه الربانية في ساحات العلم، فقد غُيّب الربانيون وطُوردوا!
ما فائدة شغل الناس بالطعن في ذوات الأشخاص! ولم لا يكون المنهج العدل والإنصاف،”ولا يجرمنكم”، لأنه الامتحان الحقيقي لحقيقة العلم في النفوس، وكيف يروم المبخس والمفتري أن ينصره الله في معركة علمية وهو يحتال ويتلاعب ويستعمل أساليب الغدر للانتصار لقوله! هذه المعارك لن تحقق إلا فتنة المسلمين.
قال ابن القيم رحمه الله: “.. وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير”. (مدارج السالكين).
ووالله ما أن ترى الكلام يفتقد للعدل مهما كانت مطالبه حقا، لينطفئن نوره أمامك ويبعث للنفور والأسف! وهل ينقض الغزل مثل الظلم!
قال ابن القيم:” من طَلبَ العلم ليُحيي به الإسلام فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوّة” مفتاح دار السعادة (1/185)
ليُحيي به الإسلام كما كان يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم يصبر على من يطلب منه إباحة الزنا! فيعلمه بأسلوب بديع من الفقه والبصيرة. اللهم رسوخا وربانية في العلم!
ما نحن إلا حلقة متصلة بميراث أمة علمي، نتعلم منهم ونأخذ عنهم، ولا يمكننا أن نسبقهم في العلم! كيف ونحن مجرد خلف لهم! ولذلك من يعتقد أن من سبقنا من أئمة أهل السنة خانوا هذه الأمة وأخفوا عليها الحق، يإنما طعن بأمانة العلم منذ عصر السلف إلى يومنا، لأن ما وصلنا كان منهم! وهذه جريمة كبرى.
هذا لا يعني العصمة، بل يعني التقوى! والاجتهاد يعني التواضع لله، وليس الاستعلاء على المؤمنين، وهذا تكشفه طريقة الردود العلمية التي تكون روحها “حب الخير والهداية “للناس وليس المخالفة لمجرد المخالفة وليس النيل من ذوات الأشخاص! وهذا نكتسبه من أدب العلم، وهو ما نفتقده بشدة اليوم لفقدان الإخلاص.
هذه كانت المشكلة التي نراها ونشخصها، وأما الحل فقاله ابن القيم الذي كان من شيوخه الحنفي ومن جيرانه الأشعري، وكان سيفا بتارا في ملاحم نصرة السنة ودحر البدعة، ومع ذلك حفظ قواعد الحق والعدل فكتب الله له القبول ليس في عصره فحسب بل في كل الأزمنة والعصور!
قال ابن القيم:”عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها، أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقى الله به”. طريق الهجرتين (ص858)
فمعاركنا ليست على أسماء رجال أفضوا إلى خالقهم، ولا في الجزم بخواتيمهم، إنما في نصرة الحق الذي توارثناه ورد الباطل والشبهات، والكف عن الخوض في النوايا إن كنا نروم الإصلاح حقا، وليس مجرد الظهور والمناجزة لحظ نفس! لنتأدب بالقرآن والسنة وسير الصحابة، وكفانا جاهلية!
معاركنا ليست في صف أي “شلة ” أنت؟، بل معاركنا أيكم أشد نصرة للحق ولو جاء على لسان خصمه الأشد! وهذه معركة نفس! من انتصر فيها يطمع حقا في الفتوحات الربانية، وإلا فسيعيش عمره يبارز بسيف من خشب على مواقع التواصل والله يستعمل من يشاء لنصرة دينه وإعلاء كلمته وإقامة بنيان الإسلام على منهج النبوة.
لقد رأيت في كتب أهل العلم وميراث التجارب أن أكثر الناس انتكاسا وتعثرا هم الذي انشغوا بأعراض المسلمين وبخصومتهم، هم من تفرغوا للنيل منهم والجزم بما في قلوبهم وخواتيمهم، وهذه والله من الغفلة ومن تلبيسات إبليس! هذه كانت نصيحة لله لا نبتغي منها جزاء ولا شكورا ولا مخاصمة، بعد طول متابعة.
وختاما، إن نصرة الحق والسنة ليست في معارك الأسماء، إنما في العمل بهما، فمن كان يؤمن بهذا الحق وبهذه السنة فليكن الانعكاس على سلوكه وليترك الأثر، فمناطحة الواقع، استراتيجية فاشلة، إنما بذر الخير فيه وحفظ الميراث بالصدق والعدل هو الكفيل بأن يبارك الله فيه ويصلح به الحال وذلك فضل الله.
ما من معركة تطول بلا مردود ولا أثر إلا مزيد تباغض وتطاول وظلم، إلا كان فيها نذيرا لصاحبها، أن حسبك! في الحديث الصحيح: عن أَبي أُمامة الباهِليِّ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا”.
اللهم طهر قلوبنا من الرياء والعجب والجدل والمراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق