الاثنين، 12 يونيو 2023

بدوي في جامعة القاهرة.. مشاهد من قصة واقعية!

 بدوي في جامعة القاهرة.. مشاهد من قصة واقعية!

سليمان صالح

أتوقف كثيرا عند المشهد الأول من فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية"، لأتذكر أول يوم دخلت فيه جامعة القاهرة في سبتمبر/أيلول 1977.

كانت قصتي تتفق مع قصة "الصعيدي" في بعض المشاهد، لكنها تختلف كثيرا في أنها واقعية وصادقة؛ فقد نشأت في البادية، وأنتمي إلى قبيلة تعتز بأصلها العربي، وبنسبها إلى أنصار رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وعشت أسمع من شيوخ العرب كثيرا من القصص عن فرسان التاريخ العربي، فأثرت تلك القصص في تشكيل شخصيتي، وفي تحديد اختياراتي في الحياة التي دفعت ثمنها غاليا.

في البادية، عشقت لغة العرب وكل علومها وآدابها، فترسخ في وجداني سمات الفارس العربي الفصيح المقاتل من أجل الحرية والحق، الذي يعتز بدينه ولغته وحريته وكرامته، لكن من الواضح أن تلك كانت من العوامل التي شكلت كثيرا من أحزان شاب جاء في عصر تتعامل فيه السلطات بعداء مع تلك السمات.

قبل أن تشرق الشمس، أعددت نفسي وحملت حقيبة تشبه حقيبة "الصعيدي" الذاهب للجامعة الأميركية، ومضيت ألوح بها مثله في طريقي إلى كلية الإعلام

صدام الخيال مع الواقع

طوال شهور الصيف، أطلقت عنان الخيال وأعددت نفسي لليوم الموعود، فقرأت كل ما استطعت الحصول عليه من كتب لأكون جديرا بالحياة بين المثقفين في جامعة القاهرة، وقبل بداية الدراسة بأسبوع ذهبت لشراء بذلة أنيقة، لم يكن لونها أصفر كبذلة "الصعيدي"، لكنها كانت رمادية اللون، ورابطة عنق، وكل مستلزمات الأناقة، كأنني ذاهب إلى حفل زفاف.

في اليوم الأول، لم أستطع النوم، وقبل أن تشرق الشمس، أعددت نفسي وحملت حقيبة تشبه حقيبة "الصعيدي" الذاهب للجامعة الأميركية، ومضيت ألوح بها مثله في طريقي إلى كلية الإعلام، فلم أجد في الكلية أحدا؛ تعجبت كثيرا: أين الطلاب والأساتذة؟!

لحسن حظي، وجدت باب المدرج مفتوحا، فأخذت مكاني في الصف الأول، ومضت الساعات طويلة، ولم يحضر أحد، فجأة وجدت طالبا يدخل فيجلس إلى جواري، كان يشبهني إلى حد كبير فقد جاء من قرية في كفر الشيخ، ثم جاء طالب صعيدي فجلس بجوارنا، وربطت بيننا الصداقة.

دخل الدكتور خليل صابات بأناقته الشهيرة، ومعه أساتذة الكلية ليقدمهم للدفعة الجديدة من الطلاب، فشعرت براحة في النفس، فها هو الأستاذ يرتدي زيا رسميا

لكن الحق معي!

كنت الوحيد بين الطلاب الذي يرتدي زيا رسميا، مما زاد في عجبي: ألا يعرف هؤلاء الطلاب أنهم في جامعة القاهرة؟ بالتأكيد الحق معي، وسلوكي هو الصحيح.. الطلاب في الأفلام القديمة التي شاهدتها كانوا يرتدون زيا رسميا يليق بالجامعة.

فجأة، دخل الدكتور خليل صابات بأناقته الشهيرة، ومعه أساتذة الكلية ليقدمهم للدفعة الجديدة من الطلاب، فشعرت براحة في النفس، فها هو الأستاذ يرتدي زيا رسميا، وهذا يعني أنني اتخذت قرارا صحيحا كلفني مبلغا كبيرا من المال، ولن أتراجع، وسوف أستمر في ارتداء الزي الرسمي، ومن هنا بدأ الاختلاف مع قصة "الصعيدي في الجامعة الأميركية".

أريد أن أكون أستاذا في هذه الجامعة، وأن أعيش فيها، فهي أجمل مكان في هذا العالم

أريد أن أكون أستاذا

خرجت من المحاضرة، فقضيت اليوم في التجول في جامعة القاهرة، وفجأة أشرقت في رأسي البدوي العنيد فكرة: أريد أن أكون أستاذا في هذه الجامعة، وأن أعيش فيها، فهي أجمل مكان في هذا العالم.

هل تدرك أيها البدوي معني هذا الحلم؟ إنه يعني أنك يجب أن تكون الأول علي الدفعة حتى يتم تعيينك معيدا، ثم تقضي سنوات طويلة لتحصل على الماجستير والدكتوراه، بينما يمكن أن ينطلق زملاؤك في الحياة العملية ليصبحوا صحفيين، ويحصلوا على الشهرة والمال.

حسنا.. فليكن، وسأعمل لتحقيق حلمي، وسأضحي من أجله.. أريد أن أظل هنا.. وعندئذ وصلت إلى كلية الآداب، فواصلت التجول بين القاعات لعلي أجد محاضرة.. لكن لم أجد أحدا، فاتجهت إلى المكتبة، شعرت أنني أخيرا وصلت إلى المكان الذي أريده وأحبه.

سألتني السيدة بدهشة: هل أنت صعيدي؟! أجبت بغضب وصوت جهوري: لا.. أريد أن أستعير كتبا.. فهل الصعيدي فقط هو من يقرأ الكتب؟

بين الكتب!

سألت أمينة المكتبة عن حقوقي كطالب في استعارة الكتب.. فنظرت إلي بدهشة قائلة: هل أنت طالب؟! أجبتها بكل فخر: نعم.

سألتني السيدة بدهشة: هل أنت صعيدي؟! أجبت بغضب وصوت جهوري: لا.. أريد أن أستعير كتبا.. فهل الصعيدي فقط هو من يقرأ الكتب؟

جاءت موظفة أخري لتنهي الموقف بابتسامة ودودة: يمكنك أن تستعير 5 كتب لمدة أسبوع.

قلت لنفسي: ها قد ابتسمت لك الدنيا أخيرا! ستقرأ الكتب التي تريدها لتصبح مثقفا كبيرا في 4 سنوات فقط، ولتحقق حلمك في أن تصبح أستاذا في هذه الجامعة يجب أن تزور المكتبة كل أسبوع لتستعير 5 كتب.

كان ديوان أحمد شوقي من الكتب التي اخترتها في ذلك اليوم، وشعرت وأنا أحمل هذه الكتب أنني أصبحت غنيا.

الدولة يجب أن تستخدم ثروتها البشرية لبناء ثروتها الفكرية، فهي مصدر القوة، وبها يمكن أن تبني مستقبلها

الأدب أم العلم؟

أطلق علي الطلاب لقب "خطيب الدفعة"، فقد حرصت على أن أتحدث باللغة العربية الفصحى، مع اختيار الكلمات السهلة البسيطة.

وفي إحدى المحاضرات، سأل الأستاذ: "أيهما أكثر أهمية لنهضة الدول العلم أم الأدب؟" واختلف الطلاب، لكن الأغلبية كانت تري أن العلم أكثر أهمية.

حتى جاء دور البدوي في الكلام، فقلت إن الأدب لا يقل أهمية عن العلم، فإن كان العلم يبني رفاهية الإنسان، فإن الأدب هو الذي يعبر عن أشواق الإنسان للعدل والحرية، ويجعله يعرف وظيفته في الحياة ويدرك هويته ويرشد سلوكه، ويرفع ذوقه، ويجعل حياته أكثر جمالا.

والأديب يقوم بوظيفة عظيمة لا تقل أهمية عن دور العالم، ومن دون العلم والأدب معا لا تتقدم الأمم، ولا تبني الحضارات، والدولة التي تريد أن تكون قوية يجب أن ترعى الأدباء، كما تشجع العلماء.

وبالأدب والعلم، نبني الثروة الفكرية، وتنطلق الأمة لتبني الحضارة.

عبّر الأستاذ عن إعجابه بالإجابة، ثم سألني عن بعض المصطلحات التي استخدمتها، ومن بينها الثروة الفكرية.

وأتاح لي الفرصة لأشرح المفهوم، وكان من أهم ما قلته إن الدولة يجب أن تستخدم ثروتها البشرية لبناء ثروتها الفكرية، فهي مصدر القوة، وبها يمكن أن تبني مستقبلها.

هل يمكن أن يفسر ذلك كثيرا من الأحداث التي شكلت حياة البدوي، وهل كان جزاء ذلك البدوي إلا أن يتم نفيه من الوطن في شيخوخته، فالحلم أكبر من أن تتسامح معه السلطة؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق