الدم الذي أضاء سراج العالم
حلمي الأسمر
في فلسفة الضعف والقوة، ثمة قوانين خارج المألوف والمعروف، فداود مثلا قتل جالوت بالمقلاع، وهو يفوقه قوة وعنفوانا، وفرعون الذي أباد أطفال مصر خوفا من مولد صبي يقوض حكمه، ساق الله له موسى، ليرعاه وينمو في كنفه، ثم ليقضي عليه وجنوده، ويوسف الذي بطش به إخوته فرموه في غيابة الجب جاءوه طلبا لما يقيتهم ويبقيهم على قيد الحياة، وحاولوا من قبل سلبه هذه الحياة، نواميس الحياة على هذه الأرض لا علاقة لها بما نراه فقط، بل بما يختبئ داخل المشهد.
غزة بمعيار الضعف والقوة، لا تكاد تساوي شيئا من حجم الكرة الأرضية، شريط ضيق من الأرض المستوية، حيث لا جبل ولا غابة، ولا تضاريس متنوعة، محاصرة برا وبحرا وجوا، فكأنها سجن كبير لا تكاد تصلح لحياة سوية، وإذ بها تتحول إلى نقطة ارتكاز لكرة الأرض كلها، في لحظة تاريخية سرقت بوهجها كل ما مر على هذه الأرض من أحداث جسيمة، ربما في السنوات المائة الأخيرة. وربما لم يخطر ببال الفاعلين في صناعة طوفان الأقصى كل ما سيتلو فعلهم من تداعيات، بل ربما فوجئوا هم كما غيرهم بالانفجار الكوني الكبير الذي انتشرت آثاره على أبعد بقعة عن غزة.
كتب الكثير جدا عن ظاهرة غزة وأعجوبتها، ولم يزل ثمة الكثير سيكتب، والحدث اليوم لم يزل على أشده، بل ربما نعيش هذه الأيام الجزء الأكثر إثارة منه، والأكثر تأثرا على من سيكتبون تاريخ العالم، ومركزية هذا الـ365 كيلومترا منه، وهي في معيار المساحات ليست أكثر من "عزبة" لأحد الإقطاعيين من أثرياء العالم الجديد. وأذكر في احتفال لافتتاح للجامعة الهاشمية في المفرق بالأردن، أن رئيس الجامعة ذكر أن مساحتها تفوق المساحة التي "يحكمها" ياسر عرفات رحمه الله، وكان أيامها مفتتح اتفاق "أوسلو" المشؤوم، حيث أقطعوا عرفات شيئا من السلطة على غزة وأريحا "أولا" وأخيرا، ثم سلبوه كل شيء، حتى حياته!
ربما لم (وربما لن!) يشهد التاريخ البشري دما مسفوكا بغزارة ما ارتوت به الـ 365 كيلومترا مربعا، ومع هذا الإجرام الذي تموله دول وأنظمة وحكام، ومع كل قطرة منه، يتحول هذا الدم وبكل قطرة منه، إلى نور في سراج ضخم ينثر عتم العالم كله، بل يخيل لي أحيانا أن كل قطرة منه تتحول إلى ضربة معول، تقوض بنيانا وتهدم جدارا، وتفجر قلعة، وتلك معجزة ربما لم تخطر على بال من صمم الطوفان ونفذه، وبالطبع لم تكن بحسبان من أقام الكيان وموله وأمده بأسباب الحياة، وها هو اليوم يرونه يتهاوى سقوطا في بئر لا يظهر له قاع!
دم غزة، وصمود الثكالى والمقاتلين والقابضين على جمر الصبر، لم يضئ العالم فحسب، ولم يبدد عتمته فقط، بل وضع فلسطين في رأس قائمة أولويات من اجتهدوا في إخراجها من التاريخ والجغرافيا، فغدت أهزوجة الباحثين عن الحقيقة.
هذه الحقيقة التي حاول القتلة وأشياعهم دفنها تحت ركام هائل من الأكاذيب والأضاليل، وكأني بركام المنازل والأبنية التي دمرتها قنابلهم، تسقط حجارتها ليس على أرض غزة ولا على أبدان أهلها الطاهرين، بل تتناثر حجارتها على "أم رؤوسهم" وتدفن مع كل قنبلة وصاروخ وقذيفة كذبة من أكاذيبهم، وتقوض كل بنيان حصنوه، وتفتك بكل قلعة جهزوها لحبس الحقيقة!
القصة لم تنته بعد، وإن كنا نعيش اللحظات الأكثر حسما منها، ودعكم من الأكاذيب التي يبثها إعلام القتلة وأشياعهم وأتباعهم والمطبعين معهم، فثمة حقائق كشفت وأخرى أكثر بكثير لم تكشف بعد، فالطوفان لم يكن كاشفا فحسب، بل كان فاضحا، حين بدد كل ما حاولوا تغطيته من تآمر وخطط جهنمية لإضعاف الأمة، وقتل روح الرجولة في أجيالها، وديمومة حكم الأنذال وتحكمهم في رقاب العباد، بل سخر الله على نحو غير متوقع، وخارج حسابات مراكز البحث وخطط الاستخبارات والدراسات المستقبلية، قوى ورجالا ونساء وفتيانا (وطلابا بالطبع!) لحمل مشعل غزة وفلسطين، والدفاع عن أهلها وتنوير من لم يزل واقعا تحت تأثير سحر الأشرار وخططهم ومشروعاتهم في التجهيل والتطبيل والتزمير والتخريب، فكانت كل قطرة دم بمثابة قنبلة من قنابل الإضاءة التي تكشف ما حاولوا تغطيته وستره!
دم غزة المبارك، حوّل فلسطين من أحجية ومرتع للعابثين واللاعبين بمصائر الشعوب، إلى بقعة ضوء تنير دروب الباحثين عن الحقيقة، المتعطشين للكرامة، الجوعى للحرية، وهنا المفارقة الكبرى، فكما أسرج دم غزة قنديل العالم فأضاء عتمه، كانت بقية محن غزة منحا أقرب إلى المعجزات، فقد جوعوا غزة فكان جوعها إشباعا للحقيقة، وعطشوها فتحول عطشها إلى إرواء للباحثين عما يروي عطشهم للصدق والنبل والإنصاف، وحاولوا قتل غزة فأحيت نفوسا تيبست أطرافها، فبعثت فيها قوة حولت ضعف القوة إلى قوة الضعف الذي قلب معادلة جالوت وداود فتل الضعيف القوي ونكل به!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق