الخميس، 9 مايو 2024

رحل العطار وبقي العطر

 رحل العطار وبقي العطر

د. أحمد موفق زيدان

منذ وعينا على الحياة السياسية والفكرية والدينية في سوريا، ونحن نتابع الشخصية الأهم التي هزّت منابر الشام، وهزّت معها ضمائر السوريين، ثم ضمائر الأمة العربية والإسلامية توقاً للإسلام، وتوقاً معه للحرية والعدالة والمساواة، إنها شخصية الأستاذ عصام العطار، الذي ظل أميناً على الوديعة التي استودعه إياها الدكتور الراحل والشيخ الحمصي الفاضل مصطفى السباعي رحمه الله كمؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، ولا زلنا نستذكر مواقفه السياسية الواضحة الكاشفة التي لا تقبل التلوّن ولا التضليل، إنها مسافة النأي عن الاستبداد وأهله، حتى ولو كان أداة لوصوله إلى السلطة، وإلى حكم حاضرة بني أمية...

التقيت الأستاذ الكبير عصام العطار غير مرة في ألمانيا، وحين سألته في مقابلة شهيرة على شاشة قناة الجزيرة، والتي كانت المقابلة الأولى منذ اختفائه عن المقابلات في عام 1981، والتي ظهر فيها عام 2009 تقريباً، عمّا تردد عن رفضه للتعاون مع انقلابيين في مطلع الستينيات، ودعمهم سياسياً ومجتمعياً ضد البعثيين. أجاب دون تردد: لن أقبل الوصول إلى السلطة من خلال البنادق، وإنما نريدها من خلال الحرية وصناديق الاقتراع الحر الحقيقي، لكن قواعد اللعبة في سوريا كانت قد حُسمت مبكراً وهي قواعد الانقلابات العسكرية، فقضت بحرمان الأستاذ من دخول سوريا بعد أن كان يقوم بأداء فريضة الحج، حين كان يهمّ بدخول الأراضي السورية من لبنان، وظل العطار بعيداً عنها منذ عام 1964 حتى توفاه الله في ألمانيا أخيراً.

خلال زيارتي إليها عام 2009، مكثت في آخن بألمانيا ثلاثة أيام للقاء أبي أيمن رحمه الله، تلك المدينة التي استقبلته على مدى ذلك التاريخ المرير من الهجرة، فتنقل خلالها بين عواصم أوروبية، ولكن ظل يقضي معظم حياته في آخن، حتى توفاه الله، ففي اليوم الأول الذي دعانا فيه على الغداء جلست معه إحدى عشرة ساعة متواصلة من الساعة الثالثة ظهراً حتى الثانية فجراً، وفي اليوم التالي كرر نفس الأمر دعوتنا على الغداء، وجلسة امتدت لنفس الفترة إحدى عشرة ساعة، أما في اليوم الثالث فقد جلسنا فيها لتسع ساعات، تخللها غداء ومقابلة تلفزيونية بثت على قناة الجزيرة، وعلمت لاحقاً أن شوارع دمشق غدت مهجورة ساعة بث اللقاء، لأن الكل كان يودّ أن ينصت للقائد الأشهر في الستينيات وما بعدها.

كان الأستاذ عصام العطار يحدثنا خلال جلساته عن كل شيء، من الفكر الإسلامي، إلى التاريخ الإسلامي، مروراً بالواقع العربي والإسلامي المرير والنهوض به، ولا تزال نبرات صوته ترنّ في أذني حين كان يضغط على الحروف والكلمات، وكأنه يخال نفسه خطيباً في مسجد الجامعة بدمشق والذي كان يصل من خلاله صوته إلى كل أرجاء سوريا، حيث يتدفق السوريون يوم الجمعة حتى من خارج دمشق للاستماع إلى خطبه المعروفة والمشهورة، والآسرة للقلوب.

حدثني الأستاذ عصام في تلك الجلسات الطويلة عن ظروف الهجرة الصعبة التي قاسوها خلال تلك السنوات، إلى أن سنّ النظام السوري بزعامة حافظ الأسد يومها سنّة الاغتيالات في الخارج ضد معارضيه، فكان أن أرسل عصابات موته إلى آخن، ليقتحموا دار عصام العطار وهو غائب عنها، فلم يجدوه في الدار، حيث كان هدفهم للاغتيال، فاستهدفوا زوجته، وقتلوها في عام 1981، أسوة بمجازرهم يومها في تدمر ومن قبلها حلب وجسر الشغور، ثم من بعدها مجزرة حماة، وسلسلة مجازر تلد مجازر حتى يومنا هذا. ارتبط الأستاذ عصام العطار بالأخت الفاضلة بنان الطنطاوي،  وحين رزقني الله تعالى البنت الأولى أسميتها بنان تيمناً ببنان الطنطاوي رحمها الله، التي كنا نتابع ما تكتبه من كتب ومن مقالات في جريدة الرائد التي كان يصدرها الأستاذ عصام رحمه الله.

كان الأستاذ عصام العطار يشير إليّ بيده لكل زاوية نال القتلة من بنان، حيث هنا الدم سال، وهنا كانت الجثة، وهنا وهنا، كما كان يتحدث، وهو كسيف حزين كئيب، يتفطر قلبه حزناً، وعيناه تسيح دموعاً على رفيقة الدرب التي أحبها حباً جماً فرفض أن يتزوج بعدها، وربما قصة زواجهما وحياتهما درس ونموذج حقيقي للزواج الرائع بين الزوج وزوجه، وحين أكّد لي ما كنا قد سمعنا عن عفوه عن قتلة زوجته، بعد أن قبض عليهم الأمن الألماني، حزنت جداً، فهذا الوقت وقت الانتقام من القتلة المجرمين الذين لا يعرفون العفو، ولا تعرف قلوبهم الرحمة، لأن من أمن العقوبة أساء الأدب، وهو ما تأكد في سلسلة اغتيالات بثها نظام الأسد من ألمانيا، إلى اغتيال مؤسس حزب البعث صلاح الدين البيطار في فرنسا، وهو الذي كتب مقاله الأشهر عذراً شعب سوريا العظيم، ويعتذر فيه عن دوره في تأسيس البعث وتمكن الطائفيين من خلاله من السلطة في سوريا، ثم امتدّ إلى اغتيال الأستاذ نزار أحمد الصباغ في نفس العام بغرناطة في اسبانيا.

لم يبخل الأستاذ عصام العطار على قضايا العالم العربي والإسلامي بالدعم والتعريف والمساندة والتأييد، فقد وهب حياته لإحياء العمل الإسلامي، فكانت علاقاته متينة وقوية ووطيدة مع كل حركة إسلامية، وحتى مع كل حركة وطنية تهدف إلى إعادة الحرية والديمقراطية للشعوب لتحكم نفسها بنفسها، ولا أدلّ على ذلك من حجم التضامن الكبير الذي حظي به بعد رحيله، فقد عزّاه الجميع. لقد أصلح العطار ما أفسده نظام الأسد في سوريا وخارجها، حين انتقم الشعب السوري والأمة العربية والإسلامية بتضامنها وتعاطفها مع رحيل الأستاذ الكبير عصام العطار، فإن رحل الأستاذ العطار جسداً، فقد بقي عطره يفوح، ويتضوّع ليس في الشام وحدها، وإنما على مستوى العالم العربي والإسلامي، سيظل السوريون يستذكرون العطار والسباعي، والألباني، ويستذكرون معهم عبد الفتاح أبي غدة وعدنان سعد الدين وحسن هويدي وسعيد حوى، ومحمد ديب الجاجي الذين قضوا بعيداً عن وطن البعث وآل الأسد، وسيظل أبناؤهم وأحفادهم ومحبوهم أمناء على الإرث الذي خلفوه بالثبات على المبادئ والأفكار حتى يرون سوريا كما تمناها وأرادها ذلك الجيل العملاق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق