الذين تحرجهم الكرامة
الكرامة في المِخْيال الشعبي العام قيمةٌ عليا، تجلبُ لصاحبها الثقةَ والشجاعةَ وعزّة النفس والكبرياء، وفي التاريخ معركةٌ فاصلةُ أعادت للشعب العربي شيئاً من كرامته المهدورة في أعقاب هزيمة 1967 الفادحة، حيث أبلى الجيش العربي وإخوته من الفدائيين بلاءً حسناً، ولقّنوا الصهاينة درساً، ربما يكون هو الأوّل من نوعه في المواجهة العربية مع المشروع الصهيوني الاستعماري النازي في فلسطين، ومنذ ذلك اليوم نتغنّى، نحن العرب، بتلك الموقعة التي رفعت رؤوسَنا جميعاً، ونتيه فخراً بذلك الإنجاز التاريخي، ونحن مُحقّون في هذا، فقد وضعت تلك المعركة السطر الأكثر إضاءةً، هي والبلاء الحسن للجيش العربي على أسوار القدس الشريف في حرب النكبة، لتأتي بعد النكسة مُعيدةً شيئاً من التوازن للروح المعنوية العربية التي فتكت بها النكبة والنكسة.
ومنذ تلك الكرامة، توالت الانهيارات والنكبات والنكسات، حتى صارت المقاومة "إرهاباً"، وحبّ الجهاد تطرّفاً وآياته مجلبة للّوم، حتّى بتنا نواريها في خطاباتنا الرسمية، ونحذفها من مناهجنا الرسمية، بل غدا مجرّد الحديث عن الجهاد وآياته وفقهه ضرباً من اللحن في اللغة، كمن يتحدّث بلكنة هجينة عن لغات الفُصحاء، وساد في أبواق الدعاية الرسمية التغنّي بما يسمّونه "المصلحة الوطنية العليا"، وهو في ظاهره شعار بالغ الجمال، وفي باطنه دعوة للتقوقع والانكماش على مصالح "طغمة" الحكم، ومكتسبات لاعقي أحذيته، والتضحية بكلّ المعاني الجميلة الجامعة للأمة ومشاعرها، لمصلحة تكريس عقيدة سايكس بيكو اللعينة، التي غدت عند ذلك الفريق بديلاً لعقيدة الوحدة والقومية، وحتّى الدين الواحد.
توالت الهزائم والانكسارات على جبهة الفعل، فيما كانت جبهة القول مُشتعلةً بالشعارات الرنّانة ونفش الريش الفارغ، وتحت السرير كانت تُحاكُ المؤامراتُ والتحالفاتُ مع العدوّ الأزلي، بل كانت العلاقات "السرية" في أوج ازدهارها، وكلّ يوم تتكشّف فصولٌ جديدةٌ من فصول اللقاءات وتبادل الأنخاب بين من كانوا ينادون بتحرير فلسطين ومن يسعون لتدميرها وشطبها من سجلّات التاريخ والجغرافيا، حتّى إذا جاء من هذا الليل البهيم شعاع ضوء خافت، بدّد شيئاً من سجف الظلام، وبدأ بكشف كثير مما سترته السنون والخطابات العنترية، والمؤتمرات التي تَبَارى الخطباء فيها بتمجيد فلسطين وقضيتها، استنفرت كلّ قرون الاستشعار الداخلية والخارجية، محذّرةً من "الخير" القادم للأمّة، فهذا الخير هو بذرة الشرّ في حساباتهم التي ستقضي على سنوات طويلة، ربما استمرت قرناً كاملاً من دفن الكرامة وإبادتها وسحقها من المخيال الشعبي، واستئصال شأفتها من الضمير الجمعي، ولا يسع المرء هنا إلا أن يقف مستغرباً، متسائلاً، كيف تتحوّل الكرامة إلى فعل مُحرج، وقد كانت مغنّاة تتيه فيها الأناشيد والأغنيات، وتزيّن الخطابات والشعارات؟ هذا يعني ببساطة أنّ كلّ ما كان لم يكنْ هو هو، بل كان شيئاً آخر.
الكرامة التي بعثها "طوفان الأقصى" في روح الأمّة بطعم هو الألذ بين نكهات الكرامة
الكرامة التي بعثها "طوفان الأقصى" في روح الأمّة، كانت بطعم هو الألذ بين نكهات الكرامة، بعد أن كاد الناس ينسون معناها، بل إنّ سنوات التطبيع والتركيع السوداء، وأدبياته وشعاراته، وقصائده، كادتْ أن تَدفِنَ بكثافتها كلّ نبضٍ حيٍ في عروق من لم ينسوا بعد طعم الكرامة والكبرياء، والشوق للتحرّر من العبودية، وأدبيات الهزيمة.
كانت صدمة أعداء الكرامة بحجم الجهود الهائلة التي بذلوها لكي ينسى الناسُ هذا المعنى الجميل. فجأة، ومن دون أن يتوقّع أحدٌ، جاء فارس مغوار من وراء حجاب اجتهدوا أن يكون سميكاً ومانعاً لأيّ حركة، وانقض على "أزعر الحي" منفوش الريش، ونتف ريشه ومسح بـ"كرامته" الأرضَ، وسط دهشة المُشجّعين والجمهور، الذين لطالما صفّقوا لهذا الأزعر، وأمدوه بكلّ ما يلزم لديمومة زعرنته وتقويته، وهنا كانت الضربة التي جاءت على أمّ رأس كلّ من ساند الأزعر وموّله وسلّحه وأمده بأسباب الحياة. ولهذا تحديداً، أصبحت الكرامة التي شعرت بها الجماهير المُتَعَطّشة لها مُحرجةً لمن حاول مسحَها، فكانت بالنسبة له كما العنقاء التي قامت من بين الرماد، وكان يظنّ أنّها ماتت وشبعت موتاً. الغريب في المشهد، وهو تحديداً ما طيّر عقل الأزعر وعقول مُناصريه، أنّ الشعور بالكرامة في نسختها الغزّية لم يقتصر على أبناء أمتنا، بل إنّ عبيرها الفوّاح طاف أنحاء المعمورة، فأيقظ نفوساً كانت على شفير الموت، وأزال طبقات من الأكاذيب والأراجيف والاعتقادات الخاطئة، التي روّجها الأزعرُ وأدواتُه، فخدّرت مؤسّسات وصروحاً علميةً ومحافلَ دوليةً، وما انتفاضة طلبة جامعات أميركا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها، إلا التعبير الأكثر صدقاً عن تأثير الكرامة الغزّية في إعادة الروح للضمير الجمعي الإنساني، بعيداً عن أكاذيب الساسة وبهلوانياتهم وسحرهم الكاذب، فكأنّ الكرامة التي هبّت من غزّة كانت عصا موسى التي ابتلعت عُصيّهم وحبالهم، وكان الناس يظنون من سحر السحرة أنّها أفاع تسعى، وإذ بها محض جمادات لا روح فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق