السبت، 6 يوليو 2024

حَتَّام فرعنة المنهج الأكاديمي الغربي؟

حَتَّام فرعنة المنهج الأكاديمي الغربي؟

 هدى عبدالرحمن النمر

 

والأدهى أن النسويات اللواتي ثقبن الآذان بالتظلُّم من ذكورية الأسلوب العربي يخضعن لممارسة «التذكير» هذه طائعاتٍ، مع أنها ممارسة لا أصل لها في اللغة ولا في الشرع، ولا في عُرف العرب جاهليةً وإسلامًا؛ إذ كانت النساء تكتب وتتكلم ويُحدَّث عنهن بأسمائهن المباشرة


من أفراد أُمَّة وضعت أصول علوم الدين والدنيا لأهل الشرق والغرب؛ عربهم وأعجمهم، مسلمهم وكافرهم، إلى أفراد متخبّطين بين الأعجمي والعربي، والإسلامي والمُؤَسْلَم!

وبَدَل الوقوف على قدم الندية والتكافؤ مع مختلف المنظومات المعرفية التي لا تستحي من نفسها، ولا تتبرأ من خصوصية تقاليدها أو تعتبر لفظة «التقاليد» عَوْرة وعارًا؛ نركع أمام عُقَد نقص ترى عُلوّ كعب نماذج الغير التي يجب خَطْب وُدّها والسير في ركابها، خاصةً النموذج الغرب - أوروبي Eurowestern. وبَدَل البناء على ذخائر الأصول العلمية الحاضرة لنا، نُرقِّع من أسلوب هذا ومنهج ذاك وأدوات تلك، ونرشّ فيما بينها بعض الفوائد والمقتطفات الإسلامية![1]

ومن نماذج حُمْق التبعية العلمية العمياء تلك: تقديس الطرق الأجنبية في الكتابة الأكاديمية والإحالة العلمية، تقديسًا لا يَقبَل النّظر، بل ويُعنّف المُخالِف له، كأنه وحي مُنزَّل من السماء، بل إن الوحي المُنَزَّل نفسه قد وُضع موضع الجدال والمخالفة! فترى الباحث المسلم -مثلًا- يملأ بحثه بذِكْر اسم الرسول -عليه الصلاة والسلام- والسيدة خديجة -عليها الرضوان-، فيقتصر على «النبي محمد»، و«خديجة زوجة النبي»، أو «خديجة زوجة محمد»! لأن «الموضوعية» أو «المنهجية العلمية» المُتَّبَعة هي تلك التي وضعتها جماعة علماء من مُنطلق أصوله كافرة بالحق (مهما تم تلطيف السياق باستعمال صفات علماني أو لا ديني، أو حداثي أو غربي، أو غير ذلك من تلافيف يظل مآلها في التصنيف الشرعي إلى الكفر)، يقتضي ضمن ما يقتضي نزع علامات الانتماء الديني التي تدل على «عاطفية» تخالف الحياد العلمي، وتؤذي شعور مَن لا يعتقد في نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام-، ولا في الرضوان على السيدة خديجة أو تَسْييدها ابتداءً!

وأيًّا ما كان تبرير ذلك المنهج -وكلها تبريرات خائرة مردود عليها-، فكيف يجد مسلم في نفسه الجرأة للإشارة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- باسمه مجردًا؟! أو يبخل على الاسم الشريف بتقديمه بلقبٍ وإتباعه بصلاةٍ، فيقتصد ويقتصر على أحدهما «النبي محمد» أو «محمد عليه السلام»! تُرَى، ما نوع الاعتقاد الذي يُصدِّق مسلم علوّ منزلته على الحق الذي معه، لدرجة أن يُعرِّض نفسه عمدًا لدعاء رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ «رَغِمَ أَنْفُ ‏رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ»[2]؛ (‏أَيْ: لَصِقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ كِنَايَةً عَنْ حُصُولِ الذُّلِّ)؟! وما نوع الأدب الذي يُصدِّق مسلم علوّ عزّته على ما أعزّه الله به من أدب حتى تطيب نفسه بوصمة «‏الْبَخِيل» من المصطفى -عليه الصلاة والسلام- نفسه؛ «البخيل الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ»[3]؟!

وقد أمر الله -تعالى- أن يُوقَّر نبيُّه، وأن يُبَجَّل، وأن يُعظَّم، وأمر بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 65]؛ وقال سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]؛ أي لا تنادوه باسمه المباشر وبغير تشريف، كما ينادي بعضكم بعضًا.

ولم يكن أحد ينادي المصطفى -عليه الصلاة والسلام- في زمانه باسمه مجرَّدًا إلا الكفار والمشركين، فتأمّل! ومن يستشهد بورود هذا الأسلوب في كلام بعض تراث السلف الكرام، فإنما كان ذلك غالبًا في مَعرِض شرح الكلام على لسان المشركين.

ومهما يكن من أمر؛ فأيهما أولى بالاتباع علميًّا وعرفيًّا؛ الأدب مع الله -تعالى- ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما جرى عليه العمل بالإجماع، أم بعض الممارسات المخالفة أيًّا كانت أسبابها؟!

ويرحم الله الأديب الرفيع، مصطفى صادق الرافعي، الذي كتب يُوبِّخ أحدًا في زمانه سلك ذلك المسلك المُشين، فقال: «أُنبِّهك إلى أنك كررت في كتابك ذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم ، دون أن تُتبِع اسمه الشريف بصيغة الصلاة عليه! وهذا سوء أدب، لا أقبَلُه أنا من أحدٍ، ولا أقِرُّ أحدًا عليه. وأنت حين تقول في كتابك: «إن الألفاظ ألفاظ محمّد»، لا تكاد تمتاز عن رجل مُظلِم القلب! نعوذ بالله من هذه الظلمة. فانتبِه إلى ذلك، واستغفر الله لنفسك»[4].

فإذا جئنا للوجه العلمي:

- أين الوجاهة العلمية في هذه الخاصية؟ أليس من الأدب العلمي ذِكْر أصحاب الألقاب التخصصية بألقابهم التي اكتسبوها بالتخصص، بغضّ النظر عن القناعة على المستوى الشخصي بكفاءتهم؟ ففِيمَ يكون نزع ألقاب النبوة وحواشيها، مع أنها بالمنظور العلمي البحت كذلك ألقاب تخصُّص وأساليب إشارة إلى ذلك المقام من الناس؟ أين الوجاهة في هذا التعرّي من الأدب؟ وأين الموضوعية في هذا التحيّز العدواني؟

- وإذا قيل: إن «الدَّكْتَرة» إقرار بدرجة علمية، أما النبوّة فإقرار بدرجة إيمانية، والإيمان محله القلب لا العقل، فهذا منطق «غير علمي»؛ إذ القناعة عامة حين تَقرّ في كيان ابن آدم تَقرّ في القلب والعقل معًا، فلكُلٍّ دَوْره في استقبال العلوم وبناء القناعات. ولا يخلو فكر ابن آدم من عاطفة (أي: تحيُّز وانتماء)؛ فالعقل ليس عضوًا منفصمًا طائرًا بانفراد في الهواء، بل جزءٌ من كيانٍ مركّب ذي روحٍ وحواسّ ووجدان[5].

- ثم لماذا يُطالِب كاتب بسلخ شيءٍ من إيمانه مجاراةً لما يؤمن أو ما لا يؤمن به غيره؟ إنما الكتابة تعبير عما قام في النفس فكرًا وشعورًا، ولا يملك كاتبٌ مهما برع أن يعرض مادة تراعي قناعات الكل في آنٍ معًا، فمَن سيُرضي ومَن سيُغضب، وما معيار التحيُّز لهذا أو ذاك؟! وعصر اليوم هو عصر حرية التعبير إلى حد الفجور، حتى وُضع مقام الألوهية موضع الجدال بندّية واستخفاف، ففِيمَ التضييق على مَن إذا اعتقد في كرامة النبوة أن يُوقِّرها في كلامه أحسن التوقير؟

وإذا انتقلنا لمنهج الإحالات والاقتباسات في المراجع العلمية Bibliographic Citations ترى عَجبًا عُجابًا! تلوم النسويات اللغة العربية على خاصيتها الذكورية بتغليب خطاب التذكير على التأنيث، ثم تُجاري ببشاشة قواعد الإحالة القائمة على ذِكْر المرء أو المرأة باسم عائلتهم «الذكوري» متمثّلًا في الجد أو الأب! ومع أن ثمة العديد من أنماط الاقتباس والإحالة الأجنبية الأخرى Citation Styles التي تَذكُر الأسماء مرتبة بشكلها الطبيعي، لكن لسببٍ ما اختير هذا النوع، واقتُصر عليه في الأكاديمية العربية؛ رغم معاكسته الفجَّة للذائقة والعرف اللغوي العربي، فضلًا عن الكبرياء النسوي! فتقرأ اليوم: وقالت الدكتورة أحمد، وحاججت الأستاذة عمر، ونَفَت الباحثة إبراهيم! وهذه مهزلة لغوية وعلمية، ومثال فَجٌّ على التبعية العمياء، وابتغاء العزة في قعر المهانة!

والأدهى أن النسويات اللواتي ثقبن الآذان بالتظلُّم من ذكورية الأسلوب العربي يخضعن لممارسة «التذكير» هذه طائعاتٍ، مع أنها ممارسة لا أصل لها في اللغة ولا في الشرع، ولا في عُرف العرب جاهليةً وإسلامًا؛ إذ كانت النساء تكتب وتتكلم ويُحدَّث عنهن بأسمائهن المباشرة، في أوج أزمان «البَطْرِيَرْكِيَّة» Patriarchy [6] شرقًا وغربًا! ومع ذلك لم يُحتَفَ بهذا الانتصار النسائي عندنا على كونه سابقًا زَمنًا وممارسة، وإنما انتبه إليه المُغرمون بأسلمة النسوية بعد أن حقَّقته المرأة الأجنبية، وكانت محرومةً منه أصلًا!

وسبب تلك الغفلة -وغيرها أكثر- أن ذلك النهج كان عندنا أصلًا مستقرًّا لا مُكتَسبًا ثوريًّا، وأن النموذج الأجنبي هو المقياس العالمي للمرأة، فلا إشادة بما لم تحقّقه نِسْوَة الغرب وإن تحقق لغيرهن، ولا حفاوة بما لا يحتفين به وإن حظي به غيرهن!

ثم تُلَبَّس كل هذه العُقَد الدونية لباس الممارسة العلمية، لا لشيءٍ إلا لأن العرف الأجنبي تواضَع عليها، وتَلقَّفها البقية بالقبول والتسليم؛ مصداق المثل العامي: «أيش يا فرعون فرعنك؟ قال: ما وجدت أحدًا يَلمُّني!»، وهذا مبدأ كل فرعنة!


 


[1] لمزيد من التفصيل عن قواعد التجديد والتأصيل في مختلف العلوم مع نماذج تطبيقية، يُراجع كتاب (الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة) للكاتبة، متاح للتنزيل من مدوّنتها.

[2] سنن الترمذي: أبواب الدعوات، (حديث رقم: 3545).

[3] سنن الترمذي: أبواب الدعوات، (حديث رقم: 3546).

[4] من رسائل الرافعيّ لأبي ريّة.

[5] لمزيد تفصيل في هذه القاعدة، يُراجع كتاب (الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة)، للكاتبة.

[6] بطريركية Patriarchy اصطلاح يُقصَد به النظام أو المجتمع الذي يتحكم فيه الرجال، بناءً على العُرف القديم بسيادة الذكر الأكبر في العشيرة أو الأسرة. يغلب استعمال لفظة (الأبوي)، أو (الذكوري) عند ترجمته للعربية، و(البطريركي) أدقّ منهما في هذا السياق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق