الأربعاء، 10 يوليو 2024

المظاهرات الكينية وما تخفيه من الصراع الصيني الغربي في القرن الأفريقي

 المظاهرات الكينية وما تخفيه من الصراع الصيني الغربي في القرن الأفريقي

إدريس آيات
أكاديمي وخبير مختص في الشؤون الخليجية-الأفريقية


خلال مرحلة التنافس الانتخابي، رفع السيد وليام روتو راية الوعود الجريئة، مُعلناً عزمه إخراج من أسماهم بـ “اللادينيين الصينيين” من كينيا، ليفسح المجال أمام حلفائه الغربيين. ومع هذا الرحيل الجماعي للصينيين، والذي تبعه خروج رؤوس أموالهم، تكشفت معالم أزمة اقتصادية حادة، إذ وجد روتو نفسه مضطراً للاقتراض من واشنطن بفائدة قدرها 7%، وهي نسبة تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف عن النسبة التي كانت تعرضها الصين والبالغة 2%. بالإضافة إلى ذلك، لجأ إلى صندوق النقد الدولي، الذي كانت شروطه تتضمن زيادات ضريبية على السلع والخدمات، ما أشعل فتيل الغضب في الشوارع.


ففي يوم 13 سبتمبر/ أيلول من عام 2022، وقف السيد روتو، الذي وُلد في العام 1966، ليؤدي اليمين الدستورية كرئيسٍ لكينيا، وهو في عمر الخامسة والخمسين، ليصبح بذلك الرئيس الخامس للبلاد منذ نيلها الاستقلال في عام 1963. كانت حملته الرئاسية قد تمحورت بأسرها حول نقطة محورية واحدة: العداء للصينيين المقيمين في كينيا.


وخلال الحملة الانتخابية التي تكللت بفوزه في الانتخابات، التي جرت في 9 أغسطس/ آب 2022، برزت عدة مراسلات وتقارير من وكالات الأنباء تنقل تصريحات وليام روتو الحادة ضد الوجود الصيني في كينيا، والتي تعكس نبرته الشديدة والقوية ضد النفوذ الصيني.


• مثلاً: في 22 يونيو/ حزيران 2022، ذكرت وكالة “فرانس برس” أن وليام روتو، نائب الرئيس الكيني وقتها، تعهد بطرد الصينيين من كينيا إذا ما تم انتخابه رئيسًا. روتو لم يبدُ مترددًا أو مواربًا في تصريحاته، إذ أعلن بوضوح عزمه على إعادة الصينيين إلى بلادهم، مشددًا على ضرورة أن تكون الوظائف التي يشغلونها متاحة للكينيين، وقال: “سنطردهم جميعًا إلى بلادهم، لدينا ما يكفي من الطائرات للقيام بذلك”.


لتحليل أحداث نهاية عام 2022 بدقة، من الضروري استرجاع برقية صادرة عن وكالة فرانس برس قبل ذلك بتسع سنوات، وتحديدًا في الثاني والعشرين من أغسطس/ آب لعام 2013. كانت الوكالة قد نشرت تقريرًا تحت عنوان “بعد أن تجاهلها الغرب، كينيا تتجه نحو الصين”. الرئيس الكيني آنذاك، أوهورو كينياتا، الذي كان قد واجه اتهامات من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية متعلقة بالعنف الانتخابي، وجد نفسه مُعرضًا للتجاهل من قبل الدول الغربية، ما دفعه لتعزيز العلاقات مع الشرق. وبالفعل، جاء سعيه في هذا الاتجاه خلال زيارته الأولى إلى الصين، والتي كانت أول زيارة دولية له بعد انتخابه في مارس/ آذار من العام نفسه.


كينياتا، خلال تغريدة له في يوم انطلاق الزيارة، أكد على الأهمية البالغة للصين بالنسبة لأفريقيا، معلنًا: “لا ينبغي التقليل من أهمية الصين بالنسبة لأفريقيا، فهي أكبر شريك لنا في التنمية”. 

هذه الكلمات والأفعال تشكل خلفية ضرورية لفهم الديناميكيات الجيوسياسية التي شهدتها السنوات التالية، وكيفية إسهامها في تشكيل العلاقات الدولية الحالية لكينيا.


في ختام زيارته البارزة إلى الصين، التي قام بها في ظل التجاهل الغربي والضغوط القضائية الدولية، تلقى الرئيس الكيني أوهورو كينياتا دعماً مالياً ضخماً يقدر بخمسة مليارات دولار من الصين، وذلك في إطار سعي كينيا لتحقيق رؤيتها التنموية لعام 2030. هذا التمويل الصيني السخي جاء في الوقت الذي كانت فيه محاكمته مقررة لتبدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2013.


في هذا السياق، لم تكن الشراكات مع الصين تقتصر على تطوير البنية التحتية فحسب، بل امتدت لتشمل خططاً لإنشاء غرفة مقاصة لليوان في نيروبي، ما يشير إلى رغبة كينيا في تقليل اعتمادها المالي على الغرب، وتحديداً بنك إنجلترا. ومن المهم الإشارة إلى أن العقود المبرمة مع الصين حملت طابعاً سرياً، وتم تنظيمها كعقود مصرفية حكومية لا تظهر ضمن الديون الرسمية للبلاد، وهو ما يحول دون تأثيرها على التصنيف الائتماني للدولة، وبالتالي لا تؤثر على شروط الاقتراض من الهيئات المالية الدولية كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي.


في غمرة الحملة الانتخابية، وبعد مرور تسع سنوات على الوعود السابقة، أعاد وليام روتو التأكيد على نيته الكشف عن العقود المبرمة مع الصين، مشيرًا إلى ضرورة التحقيق فيما إذا كان لهذه العقود خفاياها، أو كانت تضر بمصلحة كينيا. لكن يبدو أن هذه الاتفاقيات، التي أُبرمت في ظل ظروف استثنائية، كانت في الحقيقة تهدف إلى حماية السيادة الكينية في وجه ما يمكن وصفه بالافتراس المالي الغربي، وذلك في وقت كان فيه القادة الكينيون يتعرضون للتهميش والنقد من قِبل محكمة يشكك في شرعيتها كلٌّ من الصين والولايات المتحدة.


لنعد بالزمن إلى ما قبل تسع سنوات، حين أرسل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما رسالة صريحة إلى الشعب الكيني، يحذرهم فيها من “عواقب” اختيار أوهورو كينياتا، المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية. لكن الشعب الكيني خالف تحذيرات أوباما وانتخب كينياتا ونائبه روتو، الذي كان يواجه هو الآخر تهماً مماثلة. وفي العاشر من سبتمبر/ أيلول 2013، بينما كانت الأنظار متجهة نحو بكين التي نددت بالتعامل غير اللائق الذي تعرض له كينياتا، حضر روتو إلى لاهاي لمواجهة الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تتضمن القتل والترحيل والاضطهاد. دفاعه تولاه المحامي كريم خان، بريطاني الجنسية.


خلال تلك الأزمة، خطت الصين خطوة إلى الأمام لدعم كينيا اقتصاديًا، وفي العقد الأخير أصبحت الدائن الرئيسي الثاني لكينيا، بعد البنك الدولي، وذلك بتمويلها لمشاريع ضخمة في مجال البنية التحتية، بما في ذلك قرض بقيمة خمسة مليارات دولار، كان مخصصًا لتحقيق مشروع عملاق لم يشهد له البلد مثيلًا منذ استقلاله عام 1963، وهو مشروع لم يجرؤ أي بنك غربي على المغامرة بدعمه. فبحلول عام 2017، تم افتتاح خط سكة حديد يمتد من مومباسا الساحلية إلى نيفاشا في الوادي المتصدع، ويعبر العاصمة نيروبي، ما مثل نقطة تحول في البنية التحتية الكينية. إضافة إلى هذا، جلبت الاستثمارات الصينية خبراءها إلى كينيا، ما أتاح تحسين المهارات الفنية للعمال الكينيين، وخصوصاً في مجالات البناء والهندسة.


لكن.. ما الذي حدث في تلك السنوات التسع حتى بات يُنظر إلى الصين في عام 2022 على أنها الشرير في القصة؟ هناك تطورات عدة كانت محورية.


فالمحكمة الجنائية الدولية، لم تبرئ روتو، لكن أُطلق سراحه على وعد بأن القضية ستبقى مفتوحة في حال ظهور شهود جدد. وبشكل مفاجئ، استُبدل بالمدعي العام فاتو بنسودة مدّعٍ آخر هو كريم خان، محامي روتو السابق، الذي تحول من مدافع عن متهم إلى مدعٍ عام، ما يطرح تساؤلات حول النزاهة والاستقلالية في الجنائية الدولية. ومن المثير للدهشة ملاحظة تحوّل روتو من حليف متين للصين إلى خصم لدود، في الوقت الذي كان فيه تحت ضغط العدالة الدولية، ما يدل على تحولات سياسية عميقة، دوافعها أبعد من مجرد السياسة الداخلية.


ومع افتتاح القطار في كينيا، كانت هناك آمال كبيرة من الجانب الصيني لتحقيق دقة متناهية في جدولة الرحلات، لكن الواقع جاء مغايرًا، فالتأخير المستمر وعدم الانضباط في مواعيد القطارات خلق حالة من الفوضى، إذ لم يكن من الممكن تنظيم مواعيد القطارات لتكون كل عشر دقائق خلال ساعات الذروة، بل كان المتوسط الفعلي للتأخير يصل إلى ثلاثين دقيقة لكل رحلة.


هذه الأوضاع دفعت كينيا لتطلب من الخبراء الصينيين الإشراف الكامل على تشغيل النظام القطاري حتى يتسنى للكينيين التدريب والاستعداد لتحمل مسؤولية العمليات بأنفسهم. في هذا السياق ظهر المرشح الرئاسي وليام روتو، ليزعم أن الصينيين الذين تم استدعاؤهم لسد النقص هم المسببون لمشكلة البطالة في كينيا؛ وهكذا وبعد سنوات من تقديم الصين يد العون لكينيا، بدلاً من أن تُستذكر هذه الشراكة بالامتنان، تحولت إلى موضوع للهجوم والنقد، ما يعكس نوعًا من التناقض في السياسة الأفريقية، التي غالبًا ما تجد نفسها ممزقة بين الولاء للغرب وحاجتها لشركاء جدد كالصين.


ومع استدارة كينيا عن الصين ومغادرة الصينيين برؤوس أموالهم، غرقت البلاد في بحر أزمة اقتصادية قاسية، دفعت الشلن الكيني لينخفض بنسبة 22% مقابل الدولار الأمريكي منذ 2022، ما تسبب في ارتفاع حاد لأسعار المواد الغذائية والطاقة وتكاليف النقل، حتى صار الكيني البسيط يجد نفسه يكافح لتدبر أمور حياته اليومية في ظل تناقص دخله بشكل كبير.


وفي الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران لعام 2024، اندلعت اضطرابات في أنحاء واسعة من العاصمة نيروبي، على خلفية مشروع قانون لعام 2024 يستهدف جمع ضرائب إضافية بقيمة 2.7 مليار دولار لتخفيف عبء عجز الموازنة الضخم، حيث تستحوذ مدفوعات الفائدة وحدها على 37% من الإيرادات السنوية، وذلك في ظل ديون كينيا التي تصل إلى 82 مليار دولار.


ومن هنا أتتْ المظاهرات الكينية، فطالب المتظاهرون الحكومة بالعدول كلياً عن مشروع القانون المالي، معبرين عن خشيتهم من أن الزيادات الضريبية ستزيد معاناة المواطنين. ومن جانبه يؤكد صندوق النقد الدولي ضرورة أن تزيد الحكومة الإيرادات لخفض العجز وهو الحلّ، وأبدت النخبة السياسية الكينية تصميمًا على تطبيق توجيهات الصندوق، ملقية بالعبء الثقيل لأزمة الديون الحادة على كاهل الكينيين.


وبعد أنْ قُتل ما لا يقل عن خمسين شخصًا حتى الآن، وأُصيب المئات في الاضطرابات، اقتحم المحتجون البرلمان وأضرموا النار في أجزاء منه بعد موافقة المشرعين على مشروع قانون التقشف، الذي كان في انتظار توقيع الرئيس وليام روتو. كما تسبب المتظاهرون في شل حركة النقل، وأجبروا الشركات الكبرى على الإغلاق في نيروبي وغيرها من المدن الكبرى. وأصبح “روتو يجب أن يرحل” شعارًا أساسيًّا في هتافات المتظاهرين.


تحت ضغط الغضب الشعبي العارم، تراجعت الحكومة عن رفع ضريبة القيمة المضافة بنسبة 16% على الخبز وصيانة الطرق، ما كان سيزيد تكلفة الوقود والنقل، كما تم تخفيض الرسوم الجمركية المقترحة على الدراجات النارية المجمعة محليًا، والرسوم غير المباشرة على السلع الأساسية مثل زيت الطهي.


وفي ظل كل هذه الضغوط، يخطط روتو الآن لمعالجة العجز في الميزانية من خلال تخفيضات جذرية في الإنفاق الاجتماعي، ما سيؤثر بشكل خطير على التعليم والرعاية الصحية والإسكان والبنية التحتية وتمويل المقاطعات.


في الختام، لا ريب أن الأزمة التي تشهدها كينيا كانت تتشكل تدريجيًّا على مر السنين.. هذه الأمور لم تكن مقتصرة على دولة واحدة؛ فقد رأينا اتجاهات مماثلة في دول أفريقية أخرى كنيجيريا، جنوب أفريقيا، مالاوي، وغانا. لكن المؤكد أن غالبية هذه الأحداث كانت نتائج مباشرة لتأثيرات المؤسسات المالية الكائنة في الشمال العالمي، التي أوقعت الجنوب في شرك الإمبريالية الجديدة، التي لا تنفك تُفاقم الأوضاع سوءًا.


بالموازاة مع ذلك، صعّدت الحكومات والشركات متعددة الجنسيات في الشمال من حدة تحركاتها لمواجهة نفوذ الصين المتزايد على القارة؛ الصين التي تطمح لمساعدة دول الجنوب للتحرر من قيد المؤسسات الغربية، ليكون ذلك الجنوب العالمي تحت قيادتها، كي تُوظف هذا التأثير ضد خصومها ولحماية مصالحها في بحر الصين الجنوبي وفي ملف تايوان. وفي أثناء ذلك، وقعت الحكومات الأفريقية في مصيدة الديون نتيجة لاتباعها نصائح مضللة من “الخبراء” الدوليين القاطنين في الشمال، وقد أدت هذه النصائح إلى تفاقم سوء الوضع بدل تحسينه.


وفي الظروف الراهنة، حين تسلم الرئيس الكيني روتو مهامه واجه حقائق السياسة الدولية الصعبة، وبرزت له تحديات كبيرة؛ فالوعود بكشف العقود الموقعة مع الصين لم تتحقق، كما عجز عن سداد الديون الصينية، وسط ضغوط من المنظمات الغربية غير الحكومية التي دفعت الناخبين لانتخابه بهدف إزاحة النفوذ الصيني.


لم يدرك الرئيس وليام روتو ولا غيره من القادة الأفارقة أن الدائن يجب أن يبقى صامتًا، وأن قضايا الديون أوراق جيوسياسية تُوظف في لعبة المصالح، فالمؤسسات الغربية – حتى في محاولاتها تحييد النفوذ الصيني في أفريقييا- لا تعطي خدماتها بالمجان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق