هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين
محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب
بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما.
همّ الخليفة أن يعرف قاتله
كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف من قتله، فسأل ابن عباس رضي الله عنه: اُنظر لي من طعن أمير المؤمنين، فقال ابن عباس رضي الله عنه: هو غلام المغيرة بن شعبة، فقال أمير المؤمنين: الصانع؟ قال: نعم، فقال: “قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدّعي الإسلام، والحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجُّني عند الله بسجدة واحدة سجدها لله”.
ثم نظر عمر إلى ابن عباس وقال له: “قد كنت وأبوك العباس تحبان أن تكثر العلوج من الروم والفرس في المدينة”؛ فقال ابن عباس: إن شئت قتلناهم جميعا الآن، فرد عمر مستنكرا: “تقتلونهم الآن بعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا صلاتكم، وحجوا حجكم؟”.
في هذا الحوار الذي دار بين ابن عباس وعمر رضي الله عنهم، وهو ما يزال ينظر إلى جراحه تتدفق دما، تتجلى روح الإيمان الراسخ وروح المسؤولية العالية معا؛ فأمير المؤمنين كان همه أن يعرف من طعنه خشية أن يكون مظلوما حركته مظلوميته، أو أحدا من المسلمين فيتسبب فعله بفتنة بين المسلمين، وكذلك تتجلى روح المسؤولية العالية في ضبط المشهد من أية تصرفات ثأرية، تجاه عموم الفرس والروم الذين سكنوا المدينة.
وقد عبّر ابن عباس في حالة ردة فعل عاطفية عن استعداده لقتل هؤلاء ثأرا لأمير المؤمنين، فاستنكر عليه عمر رضي الله عنه في مشهد ينبغي أن يكون عليه أصحاب المسؤوليات، وهو ضبط الجماهير من الانسياق وراء الرغبات الثأرية، وأن على أصحاب المسؤولية فعل ذلك وهم في أحرج ساعاتهم، ولو كانت جراحهم تتدفق ودماؤهم تسيل، فينبغي أن يكون همهم ضبط ردات الفعل الانفعالية والحفاظ على تماسك المجتمع.
مصير المتآمرين على قتل عمر رضي الله عنه
أما أبو لؤلؤة، فقد قتل نفسه بعد أن ارتكب مجزرته البشعة، وبقي الهرمزان وجفينة وقد كانا شريكين في المؤامرة، فبعد أن طعن أمير المؤمنين عمر هاج ابنه عبيد الله بن عمر وماج، ولقي عبد الرحمن بن أبي بكر فحدثه عما رأى من اجتماع الثلاثة، وكيف خافوا حين رأوه وسقط من أبي لؤلؤة الخنجر الذي قتل به أمير المؤمنين، فتوجه عبيد الله تحت وطأة الغضب الثأري إلى الهرمزان وقتله، وانطلق يبحث عن جفينة حتى لقيه فقتله هو الآخر، ثم انطلق شاهرا سيفه إلى بيت أبي لؤلؤة المجوسي، فخرجت ابنة صغيرة له فقتلها، وكان الخبر قد وصل إلى عموم المسلمين عما يفعله عبيد الله بن عمر، فاجتمعوا عليه وأخذوا السيف منه وسيطروا عليه.
دخل المسلمون في نقاش حول التصرف الذي يجب أن يكون مع عبيد الله بن عمر؛ فاتفقوا جميعا ابتداء على حرمة ورفض ما فعله لأنه تعدٍّ على اختصاص الحاكم ومن يقوم مقامه، فليس له أن يمارس العقوبة بحق الهرمزان وجفينة بنفسه ولو كانا مجرمين، وكذلك اتفقوا على أن قتله للطفلة جريمة منكرة بشعة لا يسوغها الغضب الثأري مطلقا، ثم اختلفوا بعد ذلك، أيقتل عبيد الله بن عمر قصاصا أم لا؟ فوصلوا بعد نقاش مستفيض إلى أن يقوموا بحبسه إلى أن يشفى عمر، أو يستلم خليفة آخر مكانه إن فارق الحياة وهو من يحكم به، وفعلا أودع عبيد الله بن عمر السجن إلى عهد عثمان رضي الله عنه.
في هذا المشهد تتجلى صورة المجتمع الإسلامي الحي الذي بُني بناء تربويا راسخا، فهو يرفض أية جريمة أيًّا كان مرتكبها ولو كان الحاكم، ولا يقبل الجريمة تحت أي مسوغ من المسوغات، فالمجتمع الذي تسري في أوصاله روح الإسلام يكون قادرا على نبذ الخطأ والجريمة، وتحمل مسؤولياته في مساءلة المخطئين والمجرمين مهما كانت مواقعهم وصفاتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق