لأولئك الذين يسألون: هل انتصرت المقاومة؟
شيرين عرفة
كاتبة صحفية وباحثة سياسية
يجلس المثقف العربي على مقعده الوثير، داخل المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه، يفتح جهاز حاسوبه المحمول، ليكتب: تُرى، هل كانت عملية طوفان الأقصى مُجدية؟ هل المكاسب التي تحققت منها تستحق الثمن الذي دُفع فيها، من قتل لأكثر من 50 ألف فلسطيني، وجرح ما يزيد عن 200 ألف، وتدمير شبه كامل للقطاع؟
قبل أن نتناقش في جواب هذا السؤال، يجب أن ننوه إلى حقيقتين مهمتين، ربما يغفل عنهما كثيرون؛ أولاهما أن هذا العدد المرعب من القتلى والجرحى، وهذا التدمير الرهيب، سببه الأول والأخير هو إطالة مدة الحرب، بتواطؤ عربي مقيت، وأنه لولا خذلان دول الطوق- وعلى رأسها مصر- وتضحية “النظام المصري الانقلابي” بعمقه الاستراتيجي وأمنه القومي في غزة، لما رأينا تلك الأنهار من الدماء؛ فقد شهد القطاع من قبل 6 حروب منذ الاستقلال، لم تتجاوز أي منها بضعة أسابيع، ولم نر أبدا مثل هذا الإجرام والجنون في سفك الدماء.
والحقيقة الأخرى التي يجب أن ينتبه لها، هي أن الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين ليس عملية استعمار تقليدية، كالاحتلال الذي شهدته بلدان المنطقة، وانتهى أغلبه في الخمسينيات والستينيات، بل الحقيقة أننا أمام عملية إحلالٍ ليهود جيء بهم من شتات الأرض واستبدالهم بالسكان الفلسطينيين، وأن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية إنما هي حرب وجود.
وعليه، فإن مجرد بقاء الفلسطينيين وثباتهم على أرضهم منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، ومواصلتهم المقاومة والاشتباك مع العدو الغاشم، الذي تسانده كل قوى الأرض، ويتواطأ معه كل محيطها من الإخوة والجيران، إنما هو انتصار لا يوازيه انتصار. وإن أمثال تلك الحروب قديما، كانت تنتهي غالبا بفناء السكان وتهميش ما تبقى منهم، أو استبدال آخرين بهم، وما كانت عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، التي روج لها زعماء الصهيونية، سوى المقدمة لذلك الاستبدال.
نحن أمام نموذج إبادة شبيه بحرب إبادة السكان الأصليين للأمريكتين، السكان الذين أطلق عليهم الأوروبيون المهاجرون اسم “الهنود الحمر” لينزعوا عنهم صفة انتمائهم لتلك الأرض.. جاء الغزاة البيض لأمريكا الشمالية مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، فوجدوا فيها شعوبا وقبائل مستقرة بها منذ آلاف السنين، ملايين من البشر يجتمعون فيها ويتعايشون، وبالرغم من هذا فقد اعتبروا الأرض خالية من السكان، بل ونسبوا لأنفسهم فضل اكتشافها، وشنوا حملات إبادة واجتثاث عرقي، وسحق للهوية، واغتصاب للأرض، كي يقيموا عليها ما يسمى حاليا بـ”الولايات المتحدة الأمريكية”، وفي الوقت ذاته عمدوا إلى تغيير التركيبة السكانية والهوية الثقافية لدول أمريكا الجنوبية.
وبالرغم من الكفاح المسلح الذي خاضه السكان الأصليون ضد الاستيطان الأوروبي، وخوضهم جولات عديدة من ذاك الصراع، حتى أنه بعد سقوط الاستعمار الإنجليزي وإعلان قيام الولايات المتحدة عام 1776م، رفض السكان الأصليون الخضوع للسلطة التي احتلت بلادهم.. بالرغم من ذلك كله فإن الحكومات الأمريكية المتعاقبة نفذت ضدهم حملات إبادة مرعبة، قامت فيها بتدمير مزارعهم، وطمس هوياتهم، واقتلاعهم من جذورهم، وتهجيرهم من المناطق الخصبة التي تتوفر على الكنوز والموارد الطبيعية إلى مناطق أخرى قاحلة؛ حتى أصبحت نسبة الهنود الأمريكيين اليوم تمثل أقل من 2% من مجموع سكان الولايات المتحدة البالغ تعدادهم أزيد من 334 مليون نسمة، ويعيش أغلبهم في بيئات فقيرة ومهمشة.
في فلسطين، أريدَ للبلاد أن تشهد محاكاة لما حدث في كندا مطلع القرن العشرين، حين مورست عمليات إبادة عرقية وثقافية للسكان الأصليين، فبجانب القتل والحرب البيولوجية، وعمليات التعقيم الجنسي القسرية، التي فرضت عليهم من خلال قوانين ظالمة تم سنّها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يتم إلغاؤها في السبعينيات.. كذلك مُورست ضدهم عمليات إبادة ثقافية، تم فيها سحق هويتهم وسلخهم عن ثقافتهم.
وقد اعترفت الحكومة الكندية أنه منذ العام 1863 وحتى العام 1998، تم نقل أكثر من 150 ألف طفل من أبناء الشعوب الأصلية إلى مدارس داخلية بعيدا عن عائلاتهم، لم يُسمح لهم فيها بالتحدث بلغتهم الأصلية أو ممارسة ثقافتهم، كما تعرض كثيرون منهم لسوء المعاملة والإيذاء، وتخلل ذلك عنف جسدي وجنسي وطمس للهوية وصولاً إلى القتل والدفن.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019، تم كشف النقاب عن أسماء 2800 طفل توفوا في تلك المدارس الداخلية، وقد وُجدت رفاتهم في مقابر جماعية دون شواهد، أسفل تلك المدارس والكنائس التي شيدتها الدولة خصيصا لهذه العمليات من سحق الهوية.
فلسطين، كان يراد لها أن تكون النموذج الجديد لشركسيا، تلك المنطقة التي تقع شمال القوقاز، وشهدت بين عامي 1763 و1864 حربا طويلة استمرت 101 عام بين الروس وشعوب تلك المنطقة، والتي صنفت باعتبارها من أكثر الحروب دموية عبر التاريخ؛ حيث أرادت الإمبراطورية الروسية القيصرية استغلال سواحل البحر الأسود بموقعها الاستراتيجي الفريد في تشييد أحواض لبناء السفن، ما جعل شركسيا وسواحلها هدفاً لحرب طويلة شنتها ضد الشعب الشركسي المسلم شمال غرب القوقاز.
وبعد قرن من التمرد والحرب الشرسة والمقاومة الباسلة، قررت روسيا طرد جميع السكان، وقتل من يقاوم ذلك منهم، فقامت بتهجير ما يقارب مليون إلى مليون ونصف المليون شركسي، من مدنهم الساحلية إلى الأناضول ودول البلقان، والمناطق التي تسيطر عليها الدولة العثمانية، ثم هاجر قسم منهم إلى سوريا والأردن. وتقول الوثائق التاريخية إنه خلال عمليات التهجير القسري تلك، قضى ما بين 400 ألف إلى 500 ألف شركسي، بسبب الأوبئة والجوع.
كان يراد للفلسطينيين أن يصبحوا مثل الشركس، أو الهنود الحمر، السكان الأصليين للأمريكتين.. ولم تكن حرب غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 سوى فصل من فصول حرب إبادة واجتثاث عرقي متواصلة منذ 75 عاما على أرض فلسطين، حرب دموية وإعلامية وثقافية، تمت شرعنتها دوليا، وأُنفق عليها بسخاء، ما بين تسليح ضخم، وبروباجندا دعائية مرعبة، وشراء للذمم والولاءات، وعقد اتفاقيات ومعاهدات، كل هذا من أجل إنهاء القضية الفلسطينية للأبد.
ومع هذا، بعد 75 عاما، ما زلنا نرى اسم فلسطين يتردد في الآفاق، ويتصدر نشرات الأخبار، وتندلع من أجلها المظاهرات في مختلف بلدان العالم، وتتحدث الإحصائيات عن اتجاه شعبي عالمي لمساندة القضية الفلسطينية، يتنامى باطراد، ويؤمن بحقها في الحرية والحياة، بل وتصبح هي الدافع لاعتناق الآلاف حول العالم لدين الإسلام، بينما اسم “إسرائيل” صار يرتبط في الأذهان، بالنبذ والكراهية، فتنتشر بسبب هذا حوادث الاعتداء على السياح الإسرائيليين، والإعلان في أكثر من بلد عن عدم الترحيب بهم.
بينما الأعجب والأشد غرابة على الإطلاق، أنه بعد 11 شهرا من حرب إبادة متوحشة، شنها جيش الاحتلال، وتعاون معه فيها حلفٌ من أقوى دول العالم، على رأسها أمريكا، وتمت الاستعانة فيها بأعتى أجهزة المخابرات، وتمدها كبرى مخازن الأسلحة، وحاملات الطائرات، حرب تواصلت في الليل والنهار، من الجو والبر والبحر، على مدينة بحجم أحد أحياء القاهرة.. أرض مكشوفة، ومحاصرة منذ سنوات، لا يملك أهلها أسلحة جوية أو منظومة دفاع، بل فقط أسلحة خفيفة، وصواريخ بدائية تم تصنيعها محليا، وهم يقاتلون من داخل أنفاق حفروها بأظافرهم.
مدينة شهدت أكبر عملية تدمير جنوني في العصر الحديث، لكل شبر على أرضها، مع حصار خانق وتجويع لمدة تقارب السنة، وبالرغم من ذلك، ما زال أهلها يقاومون، ويبدعون في فنون المقاومة، ما بين عمليات تثخن في صفوف العدو وتسقط منه القتلى والجرحى، وما بين حرب إعلامية بمقاطع مصورة شديدة الاحترافية، توجه فيها المقاومة رسائل بالغة القوة، وتهديدات تشعل الجبهة الداخلية للعدو، وتجعل الصحف العبرية تتحدث عن انقسام بالغ الخطورة داخل إسرائيل، ومؤشرات على اقتراب حرب أهلية، تجعل مفكرين ومؤرخين وأكاديميين يتنبؤون بنهايتها الحتمية، ولا يتوقع أشدهم تفاؤلا أن تستمر قائمة لأكثر من عقد من الزمان.
ثم بعد هذا كله، يأتي أحدهم، ليتشدق علينا ويُنَظر على الفلسطينيين، ويستهين بجراحهم، ويتجاهل مقاومتهم الأسطورية، ويتساءل قائلا: ما جدوى الطوفان؟ وهل انتصرت المقاومة؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق