الوثنيّة وأسبابُها.. بين يدي ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم
محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب
إلى جانب الجاهليّة التي كانت تمثّل الصّنميّة الفكريّة المشيّدة في عقول أفراد المجتمع وكياناته آنذاك؛ كانت الوثنيّة التي تتجلّى في الأصنام الماديّة المنحوتة المعبودة السّمة الثّانيّة الأبرز للمجتمع الجاهليّ إبّان الفترة التي ولد فيها نبيّ الرّحمة صلى الله عليه وسلّم.
ثلاثمئةٍ وسّتون صنمًا كانت تنتصب حول الكعبة المشرّفة رمز التوحيد وتحيط بها إحاطة القيد بالمعصم في صورة للشرك حين يخنق التوحيد بكثرته متسربًا من شقوق الوهن الفكريّ والهزيمة النفسيّة والاستلاب الحضاريّ.
كان عمرو بن لُحيّ الخزاعيّ سيّد خزاعة المطاع فيها والمهيب عند قبائل العرب عامّة أوّل من أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: “يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قُصبَه ــ أمعاءه ــ في النار، فما رأيت رجلًا أشبه برجلٍ منك به، ولا بك منه، فقال أكثم: عسى أن يضرّني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا، إنّك مؤمن وهو كافر، إنّه كان أول من غيّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحَر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي”
في إحدى أسفار عمرو بن لحيّ الخزاعيّ إلى الشّام التي كانت في نظر العرب آنذاك أرضًا روميّةً ينطبق عليها ما ينطبق على الرّوم في نظرة العرب إليهم من الانبهار بحضارتهم والشعور بالهزيمة النفسيّة تجاههم، نزل سيّد خزاعة في البلقاء من أرض الشّام عند قوم يقال لهم العماليق فلفته ما رآه من انتشار الأصنام فيهم.
يذكر ابن هشام في سيرته: “حدثني بعض أهل العلم، أنّ عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشّام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق ــ وهم ولد عملاق، ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ــ رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له هُبَل، فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه”
أمران بعثا في نفس عمرو بن لحي الخزاعيّ الإعجاب بما رآه عند العماليق في الشّام من عبادة الأصنام وتغييب عقله عن المحاكمة: الهزيمة النفسيّة التي كان يعيشها تجاههم وشعوره بتفوقهم وغلبتهم الحضاريّة، والاستلاب الفكري الذي كان يعيشه آنذاك فهو في قرارة نفسه كان يتعامل معهم على أنّهم أهل كتاب أو بقايا من أهل الكتاب فلا بدّ أنّهم أعمق علمًا وأقدر فكرًا من البيئة العربيّة الجاهلة بنظره.
وهكذا حمل عمرو بن لحي الخزاعي الصّنم هُبَل مغتبطًا به، رغم أنّ العماليق أعطوه صنمًا مقطوع اليد فضنّوا عليه بصنم كامل النحت، فلمّا وصل قومه جمعهم ليبشرهم بالاستيراد الحضاريّ الذي جاءهم به من صناعات ونتاجات الفكر الغربيّ المتحضّر، فاحتفت القبائل آنذاك بالإله الجديد، وشعروا بالعار أن يكون إلههم مقطوع اليد فجمعوا ذهبًا من قبائل عدّة فصهروه وصنعوا لهبل يدًا من ذهب، ثمّ بدأت القبائل تشعر أنّ خزاعة لا ينبغي أن تحظى وحدها منفردة بشرف الحصول على إله جديد فبدأ قادتها وزعماؤها يتقاطرون إلى الشّام لاستيراد الآلهة من بلاد الحضارة المبهرة، وبعد مدة من الزمن تحوّل الأمر من الاستيراد إلى الصناعة المحليّة فبدأت عمليّة نحت الآلهة وتفاخر كلّ قبيلة بإلهها ووضعه حول الكعبة حتّى وصل عدد الأصنام المحيطة بالكعبة المشرّفة ثلاثمئة وستون صنمًا.
إنّ الهزيمة النفسيّة والشعور بالنقص تجاه الآخر والاستلاب الفكري للغرب كان السبب الذي جرّ على العرب آنذاك كارثة الوثنيّة التي غدت عقيدة متغلغلة في النفوس، وهكذا هو الحال في كلّ زمنٍ من أزمنة التردّي الحضاريّ والضّعف والوهن؛ فإنّ الشعور بعقدة النقص الحضاريّ الذي يدفع للتقليد الأعمى واستجلاب النفايات الفكريّة من الآخر يجر على الآمة الكوارث التي يغدو التخلّص منها أمرًا يحتاج إلى جهاد كبير وجهد عظيم.
وقد ناقش ابن خلدون هذه الظاهرة المتجدّدة في حديثه عن شعور المغلوب بأنّ الحقّ والكمال يكون حيث تكمن الغلبة والقوة مما يدفعه لتقليد الغالب في تفاصيل حياته العامّة وأفكاره المختلفة؛ فيقول في المقدمة: “المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أنّ النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب؛ فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه ــ والله أعلم ــ من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”
ولك أن تتخيّل أن ازدراء عقولهم وصل بهم إلى أن يصنع بعضهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله، ومن ذلك ما حدث مع قبيلة حنيفة حين صنعت إلهها من تمر وأقط فلما أصابها مجاعة أكلته فضربت العرب بها المثل قائلة: “أكلت حنيفة ربّها”
وقال الشّاعر فيها:
أَكَلَتْ حَنِيفَةُ رَبَّهَا
زَمَنَ التَّقَحُّمِ وَالْمَجَاعَةْ
لَمْ يَحْذَرُوا، مِنْ رَبِّهِمْ
سُوءَ الْعَوَاقِبِ وَالتِّبَاعَةْ
إنّ الهزيمة النفسيّة والاستلاب الحضاريّ إذا ما استبدّ بمجتمع من المجتمعات غيّب عقله عن المحاكمة السليمة والتقييم السويّ وألقى به في لجّة الآخر فيغرق فيها وهو لا يتقن السباحة، وفي هذا أجلى صور سفاهة المرء نفسه وازدرائه ذاته وإهانته لعقله وكينونته، ولقد صدق الله تعالى القائل في سورة البقرة: “وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ”
وهذه الوثنيّة التي كانت سمة عامة وهويّة للمجتمع إبان ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم تؤكّد أن المجتمع كلّه آنذاك كان بحاجةٍ إلى الولادة وإلى الربيع الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق