معسكر الباطل يتألم أيضاً
د. عبد الله العمادي
كاتب صحفي ومؤلف
تذكير إلهي للمسلم المؤمن الذي يقاتل عدو الله وعدوه، قتالاً عسكرياً أو فكرياً أو اقتصادياً أو غير ذلك من أنواع القتال ضد الأعداء، وألا يستسلم للألم أو الوهن أو الضعف الذي قد ينتج في مرحلة من المراحل عن شدة القتال، أياً كان نوع هذا الألم.
إن ذلكم الضعف أو التعب والنصب أو الألم الناتج عن مقارعة العدو أمر طبيعي بحسب قوانين الحياة، أو مواجهات الحق والباطل {إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون}، أي إنه كما تتألم أيها المسلم المؤمن في معركتك ضد عدوك، فتأكد أن ذلك العدو يتألم بالمثل، وقد أصابه الوهن والضعف والجهد والنصب أيضاً.
جاء في تفسير القرطبي أن الآية الكريمة “نزلت في أعقاب غزوة أحد، حيث أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات. وكان قد أمر ألا يخرج معه إلا من كان قد حضر القتال في غزوة أحد”!
معنى هذا أن الآية الكريمة تأمر المسلمين المؤمنين في كل زمان وكل مكان بالمحافظة على فرائض الله، ومنها الإقدام على قتال أعدائهم بعزيمة صادقة، وهمة عالية، وصبر وتصابر وتحمل للأذى، وألا يحول بينهم وبين هذا القتال ما يشعرون به من آلام وجهد ونصَب بدني، ومثلها من آلام نفسية عميقة ناتجة عن خذلان وإرجاف من لدن إخوانهم في الدين، أو غيرها من مسببات الألم.. هذه نقطة أولى جديرة بالمعرفة.
إحدى الحسنيين
النقطة الأخرى الأهم: {وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً}.. أي إن الفرق بينك أيها المسلم المؤمن وبين عدوك في مثل هذه المعارك، أنك ترجو من الله ما لا يرجوه عدوك؛ أنت تقاتل عدو الله وعدوك في معركةٍ أنت تعلم قبل خوضها أنها جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل، وأنك على يقين تام لا يتزعزع أنه مهما تكن النتائج، فأنت فائز منتصر نهاية الأمر.
إن للمؤمنين- كما يقول ابن عاشور في تفسيره- “مزية على الكافرين، وهي أنّهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفّار، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا، ورجاء الثواب في الأحوال كلّها”.
هذا هو المفهوم الصحيح المطلوب من المسلم المؤمن إدراكه تمام الإدراك، وهو يخوض معاركه ضد أعداء الدين على جميع الجبهات والأصعدة. فلا معركة- مهما كان نوعها- دون إصابات ودون آلام وجروح ومشقة وضعف في مرحلة من مراحلها. لكن الذي يعين ويثبّت المسلم أن الجزاء المنتظر والمرجو من الله، يختلف عن الذي ينتظره عدوه، وهذه هي نقطة الاختلاف الجوهرية بين فريق الحق وفريق الباطل.
آلام معسكر الباطل أشد
ما يجري الآن في غزة هو أوضح وأبرز الأمثلة على هذا الحديث.. إن الألم الذي يشعر به المجاهد الغزاوي أو المقاوم الفلسطيني بشكل عام، يكاد في مرحلة من مراحل هذا القتال الدائر أو صد العدوان الصهيوني الجائر يصل إلى قمته، وربما يمكن القول ونحن نشاهد القتال الدائر على أرض غزة الأبية، أن الألم وصل مداه فعلاً، سواء البدني أو النفسي، وهو الأشد.
لكن على رغم ما نراه أمامنا، فإن هناك ثباتاً غير طبيعي لهؤلاء المجاهدين، رغم كل الآلام والمصاعب، وهذا دليل على نوع التربية الإيمانية التي تربى هؤلاء عليها، وعمق إيمانهم بوعد الله لعباده المؤمنين المجاهدين الصابرين، وصدق يقينهم بحتمية النصر وإن طال الأمد.. وهذه نقطة ربما تغيب عن بال كثيرين.
إن الجانب المقابل، أو معسكر الباطل بعسكرييه ومدنييه، يتجرع آلاماً ومشقات قد لا تظهر علناً بالشكل المكثف، الذي تحرص وسائل الإعلام المختلفة على إظهاره في الجانب الفلسطيني، وهدفها الخفي بث الوهن واليأس في النفوس المجاهدة في فريق الحق.
إن الجانب الصهيوني يعاني ويتألم ربما أكثر من الجانب الفلسطيني، وإن لم تظهر مشاهد ذلك كثيراً على وسائل الإعلام. إن هؤلاء {أحرص الناس على حياة}.. أي حياة!.
الجندي الصهيوني ومن يسانده من جنود ملة الكفر، سواء كانوا أمريكان أو أوروبيين أو هندوس أو غيرهم، يدخلون القتال رغبة في مكافآت ومغانم ينتظرونها على شكل ترقيات وأوسمة وحوافز مادية وغيرها، وبالتالي ترى حرصاً شديداً ألا ينكشف أحدهم في ميادين القتال، وألا يُقتل قدر المستطاع، لأنه قد وعد أهله وأحبابه أنه ذاهب لقتال مجموعة “إرهابية” أو أعداء- كما تم حشو ذهنه بتلك الأكاذيب- ثم يعود ليعيش حياته بعد ذلك.
ومن هنا ترى جزع أهاليهم الشديد وحزنهم الأشد حين يرون أبناءهم وقد عادوا في توابيت الموتى، ملفوفة بعلم دولتهم الإرهابية المجرمة، على عكس ما تراه في معسكر الحق، حيث تجد عائلات غالبية الشهداء، وإن بكت قليلاً، فإنها استبشرت كثيراً لنيل أبنائها إحدى الحسنيين، وزاد ذلك في إيمانهم وثباتهم. ولم لا وقد تحقق ما كان يرجوه أبناؤهم الشهداء وهم داخلون لمواجهة الباطل وأهله.
هذا هو الفرق بين معسكر الإيمان ومعسكر الباطل.. الجميع في المعسكرين يتألم، لكن ليس الجميع يرجون من الله الرجاء ذاته؛ معسكر الحق مؤمن بوعد الله أن الأمر محسوم لا شك فيه، لكنه يحتاج لبعض الصبر والتصابر، وإن طال الأمد {فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتِركم أعمالكم}.
هذه هي المعاني التي لا أشك لحظة في أنها ترسخت في نفوس كتائب الحق في غزة، والمرجو في الوقت ذاته أن تترسخ في الكتائب الأخرى المنتظر نهوضها في بقية فلسطين المحتلة. ولعل هذا أيضاً هو سر بقاء المواجهة مشتعلة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر في غزة، ونسأل الله أن يتم نعمته على أوليائه، وينصرهم نصراً عزيزاً مؤزراً.. {ويقولون متى هو. قل عسى أن يكون قريباً}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق