الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

عندما سألتني محدثتي عن غزة!

 

عندما سألتني محدثتي عن غزة!

محمود عبد الهادي

كاتب صحفي وباحث

20 فبراير, 2024

المقال يستعرض واقع الدول العربية والإسلامية وتأثير التاريخ على تحولاتها السياسية والاجتماعية، مع تسليط الضوء على التحديات الراهنة وتأثيرها على القضايا الإنسانية مثل الأزمة في غزة.

الواقع العربي والإسلامي – بين التاريخ والتحديات الراهنة

قالت لي محدثتي بألم شديد، وقهر أشد، وهي تحبس دموعها في أجفانها المحتقنة: 
لماذا لا يهبّ العرب والمسلمون حتى الآن لنجدة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ويوقفوا حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية المستمرة منذ أكثر من أربعة أشهر، والتي تصرّ على مواصلة تدميرها للقطاع وقتل شعبه، بمعدل يزيد عن ١٥٠ قتيل و٣٠٠ جريح يومياً؛ ومعظمهم من الأطفال والنساء؟ 
لماذا هبّت الولايات المتحدة والدول الغربية فوراً لنصرة الكيان الصهيوني منذ اليوم الأول؟ ثم أجهشت بصوت يلفه البكاء: إلى متى سيستمر هذا التخاذل وهذا الصمت، والدماء ما زالت تتدفق في كل مكان؟

تعيش الدول العربية والإسلامية حالة هزيمة شاملة، وتبعية جبرية فُرِضت عليها منذ السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى، ولا تزال تخضع لآثارها حتى اليوم.


نظرت محدثتي إليّ نظرة رجاء قاتلة، تتوقع مني إجابة تشفي غليلها، وهي لا تدرك مدى الحرج الذي وضعتني فيه للإجابة على مثل هذه الأسئلة التي تطرق أدمغة الشعوب العربية والمسلمة منذ بدايات الحرب الهمجية على غزة، وما زالت تجوب الآفاق بحثاً عن إجابة ترضيها، لأن هذه الشعوب لا تزال تعيش في حالة غيبوبة متواصلة، تهرب إليها لتنسى الواقع الأليم الذي يحيط بها ويتحكم في أنفاسها.

– لماذا تقاعسوا عن غزة؟

قلت لمحدثتي: إن الإجابة على هذه الأسئلة المؤلمة، تأخذنا تارة بعيداً في غياهب التاريخ، ثم تقفز بنا فجأة إلى الحاضر الأليم الذي نعيشه، ثم تنتقل لتحوم قليلاً حول أسوار المستقبل العالية، وأكتفي للإجابة بالتذكير بالنقاط التالية:

1. إن المنطقة العربية والإسلامية تعيش في حالة هزيمة شاملة، وتبعية جبرية فرضتها عليها هذه الهزيمة، وذلك منذ السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى، ولا تزال الدول العربية والإسلامية منذ أكثر من ١٠٠ عام تخضع للآثار التي خلفتها هذه الهزيمة، ومن أبرز هذه الآثار:

    إنهاء الهوية السياسية الإسلامية المشتركة التي كانت تربط مناطق العالم الإسلامي، بعربها وعجمها من المغرب العربي إلى إندونيسيا، ضمن قيادة سياسية واحدة.

   – تقسيم العالمين العربي والإسلامي إلى مجموعة دول على أساس قومي، بحيث يكون لكل دولة هويتها وعلمها، وعملتها ونظامها السياسي وقيادتها، وتاريخها وحضارتها، ومصالحها وتطلعاتها المستقبلية، ومناهج تعليمها وثقافتها، وإعلامها ورموزها التاريخية والمعاصرة، وغير ذلك من الأسس التي تجعل من شعب كل دولة على حدة؛ وحدة واحدة مستقلة لا يربطها ببقية دول المنطقة سوى مصالحها القومية، التي سرعان ما تدفعها للانفصال عنها إذا اهتزت هذه المصالح قيد أنملة.

   – بناء الدول العربية والإسلامية الجديدة بمساعدة الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، على الأسس والمبادئ والأنظمة، التي تضمن لها ارتباط الدول العربية والإسلامية الوليدة ارتباطاً مصيرياً بها في كافة الظروف والأحوال، سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتعليمياً وحضارياً.

    انشغال الدول العربية والإسلامية الوليدة بكياناتها الجديدة، واستقلالها الزائف، واستكمال عملية بناء هويتها القومية الخاصة، دونما كبير اعتبار من كل دولة لجوارها الذي كانت تشكل معه جغرافيا واحدة ونظاماً سياسياً واحداً، بهوية واحدة ومصير مشترك.

   – استمرار الهيمنة الغربية على الدول العربية والإسلامية في كافة المجالات، واقتناع الدول العربية والإسلامية بأنها لا تستطيع الانفكاك عن هذه الهيمنة، وأن أي محاولة لتحقيق ذلك سيكون مصيرها الفشل.

2. إن هذه الهزيمة والتبعية التي تعيشها الدول العربية والإسلامية حالياً، هي إحدى تجلّيات المرحلة التاريخية الراهنة التي قد تمتد لعدة عقود أو قرون قادمة، في انتظار بدء مرحلة تاريخية جديدة، تنهار فيها أنظمة المرحلة الحالية، وتتهاوى فيها القوى التي كانت تهيمن عليها، لتظهر قوى جديدة بأنظمة جديدة، تتشكل فيها الجغرافيا السياسية العربية والإسلامية من جديد. وهذه المراحل التاريخية عبارة عن دورات متعاقبة تتسارع أحياناً، وتتباطأ أحياناً أخرى، وقد شهدها العالم الإسلامي، بعربه وعجمه، مراراً على مر التاريخ، مخلّفة ظروفاً أقسى مما يعيشه الآن، وخاصة في دورتي الغزوين الصليبي والمغولي. وهذه الدورات التاريخية لم تمر على العالم الإسلامي وحده، بل على جميع الأمم التي تعيش في العالم من حولنا.

السياق التاريخي الراهن الذي تعيشه الدول العربية والإسلامية؛ لا يجعلنا نتوقع منها أن تقوم لنصرة قطاع غزة بأفضل مما تقوم به، بل على العكس من ذلك، تجعلنا نتوقع الأسوأ، وهذا ما ينبغي الإقرار به والتعايش معه، لأن إنكاره يعني الاستمرار في حالة الغيبوبة والوهم.

3. النقطتان السابقتان توضحان أن عملية “طوفان الأقصى” جاءت في سياق تاريخي عربي وإسلامي في غاية السوء، تهتم فيه كل دولة من الدول العربية والإسلامية بمصالحها الخاصة، وبعلاقاتها الإقليمية والدولية التي تحافظ على هذه المصالح، التي تحكم مواقفها وتحركاتها تجاه القضايا المختلفة الإقليمية والدولية، ولا تستطيع الخروج عن نظام الهيمنة الذي يضمن لها استقرار هذه المصالح، لأن أي محاولة للخروج تعني الانهيار السياسي الفوري، وقد يتبعه الانهيار الجغرافي.

4. وهذا يعني أن معطيات السياق التاريخي الراهن، ومنظومة القوى الغربية المتحكمة في المرتكزات السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية التي تقوم عليها الدول العربية والإسلامية؛ لا تجعلنا نتوقع من هذه الدول أن تقوم بأفضل مما تقوم به، بل على العكس من ذلك، تجعلنا نتوقع الأسوأ، وهذا ما ينبغي الإقرار به والتعايش معه، لأن إنكاره يعني الاستمرار في حالة الغيبوبة والوهم، واستمطار سماء لا ماء فيها، وانتظار النبات في الصحراء الجرداء القاحلة.

نظرتُ إلى محدثتي وقد وضعت كفيها على رأسها واغرورقت عيناها بالدموع، وقبل أن تبدأ التعليق على إجابتي السابقة، بادرتها قائلاً: هذا هو واقعنا الذي لا نملك الفكاك منه، كما لا نملك تغييره، وهذا لا يعني الوقوع في اليأس والركون إلى الغيبوبة، ولكننا بحاجة إلى فهم واقعنا بطريقة تساعدنا على ألا نتوقع منه إلا ما يقدر عليه، أما ما لا يقدر عليه، فننتظره من الله سبحانه وتعالى، الذي يدفع الناس بعضهم ببعض ليقضي على الشر والطغيان، ويفتح صفحة جديدة من الخير والعدل، وهو القائل سبحانه {وتلك الأيَّام نداولها بين النَّاس}.

أعان الله أهلنا في غزة على ما هم فيه، ونسأل الله تعالى أن يفرّج كربهم ويكشف همّهم وغمّهم، وأن يختم لهم بالنصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق