الخميس، 12 سبتمبر 2024

سد النهضة.. وأخطر البنود في أجندة الخراب

 سد النهضة.. وأخطر البنود في أجندة الخراب

شيرين عرفة


في مقابلة مصورة له في 12 يونيو/ حزيران 2021، كشف الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، عن معلومة شكلت صدمة للرأي العام، حين قال إن مسؤول مكافحة التجسس الإسرائيلي في وزارة الاستخبارات الإيرانية كان جاسوسا لإسرائيل.

وأكد نجاد أن “هذا ما جعل دولة الاحتلال تنجح في تنفيذ عمليات تجسس کبرى داخل إيران”، وأشار إلى وجود “عصابة أمنية” رفيعة المستوى في بلاده، موضحا أن دور هذه العصابة هو تسهيل عمل الجاسوس، ومساعدته في سرقة ملفات نووية وفضائية من مراكز حساسة، فيما يسمى بـ”عملية إسرائيل المكثفة”، والتغطية على تلك السرقات بتسجيلها كسرقة عادية قام بها اللصوص، كما كان لها دور كبير في اغتيال العلماء النوويين، وتنفيذ عدد من التفجيرات.

المثير في تصريحات نجاد أنها جاءت كاعتراف إيراني (غير رسمي) بصدق حديث رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، قبل هذا بأيام، عن نفوذ المخابرات الإسرائيلية في البرنامج النووي الإيراني، حيث تحدث عن اغتيال العالم النووي الإيراني “محسن فخري زادة”، وعن عملية الموساد في 31 يناير/ كانون الثاني 2018، وسرقة وثائق نووية إيرانية من مستودع في ضواحي طهران، حيث قال كوهين إن العملية، التي كان من المفترض أن تنتهي في سبع ساعات، كان فيها 20 شخصا من عملاء الموساد، لم يكن أحد منهم إسرائيليا، وجميعهم على قيد الحياة.

مذهلة بحق تلك القصص التي تكشف عن الاختراقات والعمليات الجاسوسية، التي تتم بين الدول بعضها وبعض، فأجهزة الاستخبارات في الأنظمة القوية لا تقتصر مهمتها على كشف نقاط الضعف وسبر الثغرات الأمنية في داخل البلاد، لكن تتخطاها إلى محاولة اختراق جُدُر الحماية للدول الأخرى، والوصول إلى معلومات تحقق من خلالها الاستفادة، أو تضر بالدول المستهدفة من هذا الاختراق، وكلما زاد العداء بين دولتين كانت المعارك الاستخباراتية أشد سخونة، وتأثيراتها بالغة القوة، خاصة لو كان الهدف من ورائها التأثير على مجال صناعة القرار.

وينقلنا ذلك إلى كتاب “الجاسوس والخائن”، الذي يحكي فيه الكاتب والصحفي البريطاني الشهير “بين ماكنتاير” قصة العميل المزدوج “أوليغ جورديفسكي”، والتي يراها البعض ضرباً من ضروب الخيال، وتصلح لأن تكون قصة فيلم سينمائي مشوق ومثير، على الرغم من أنها قصة حقيقية!. حيث يشير “ماكانتاير” في كتابه إلى أن “جورديفسكي” كان ضابطاً كبيراً في جهاز الاستخبارات السوفييتي (KGB)، وقد تم إرساله إلى لندن لجمع أسرار عن نظام الحكم في بريطانيا، دون أن يعرف رؤساؤه في جهاز الاستخبارات أنه بالأساس جاسوس يعمل لمصلحة استخبارات الخارجية البريطانية (6M-1) لأكثر من عقد من الزمان.

ويكشف الكاتب تفاصيل مذهلة عن واحدة من أغرب قصص الجاسوسية وأخطرها على الإطلاق خلال فترة الحرب الباردة، والتي كانت أحد الاختراقات الغربية العديدة، التي تسببت في الأخيربتفكيك الاتحاد السوفييتي، ووضع نهاية للحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان.

ويحكي الكاتب، أنه عندما زار الزعيم السوفييتي السابق “ميخائيل غورباتشوف” بريطانيا عام 1984، كانت مهمة “جورديفسكي” الرئيسة هي نصح غورباتشوف بما يقوله حين يلتقي بـ”مارغريت تاتشر”، رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، بينما لم يكن غورباتشوف على علم بأن تلك النصيحة قد كتبت في جهاز الاستخبارات البريطاني، وأن الضابط السوفييتي الكبير، الذي يثق فيه ويستمع لما يقوله، هو جاسوس بريطاني مهمته التأثير على قراراته، وتغييرها لصالح بريطانيا والغرب.

ويقول الكاتب إن جورديفسكي في تلك الزيارة كان يشير على الطرفين بما يقول كلٌّ منهما للآخر؛ وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل في التاريخ، على حد تعبيره، ويضيف الكاتب أنه قد ساهم أيضا في تقريب وجهتي النظر بين غورباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريجان، وساعد في عقد لقاء بينهما في مؤتمر قمة بـ”جنيف”، وكان اللقاء ناجحا للغاية.

وقد زود جورديفسكي مديرَ الـ”سي آي إي” بمعلومات وافية عن توجهات غورباتشوف، فكانت وساطته تلك، وهذه اللقاءات، أحد الأسباب التي أدت في آخر المطاف إلى سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، انتهاءً بإعلان تفككه، واستقلال جمهورياته في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991م، فانهارت بذلك قوة عظمى، غيرت من خريطة النفوذ العالمي، واختلت على إثرها موازين القوى في عالمنا اليوم.

يروي لنا التاريخ قصصا عن الجاسوسية، كان ما فعلته بأمم وبلدان أقوى مما فعلته بها الحروب، لذلك تجد أن الأنظمة الحديثة تولي اهتماما بالغا بالملفات الاستخباراتية، وتنفق عليها بسخاء، وتعتبرها الميدان الأول للمعارك بينها وبين الدول التي تصنفها في خانة الأعداء.

لا أدري لماذا تذكرت تلك القصص عن اختراق البلدان، والتأثير في قراراتها السياسية، وأنا أتابع بحزن شديد ذلك الفشل الذريع الذي مُنيت به مصر في قضية سد النهضة، وكيف بات 100 مليون مصري ضحية لفقدان شريان الحياة في بلادهم، وعرضة للجوع والعطش، بعد حبس مياه نهرهم الوحيد، والذي يعتمدون عليه بشكل رئيس في الشرب والزراعة، ومجالات الصناعة والاستثمار، حيث تمثل مياه النيل 79.3% من الموارد المائية التي تمتلكها مصر، وتغطي 95% من الاحتياجات المائية للسكان.

وهذا يتفق مع أقوال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي وصل إلى الحكم في بلاده عبر انقلاب عسكري، خلال مؤتمر صحفى مشترك مع نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير، بقصر الاتحادية أمس الأربعاء 11 سبتمبر/ أيلول، حين تطرق لموضوع سد النهضة، فأكد أن نظامه ظل لمدة 10 سنوات في مفاوضات غير مجدية مع أثيوبيا لمحاولة الوصول إلى اتفاق ملزم بشأن إدارة مياه النيل، والذي لا تملك مصر سواه كمصدر للمياه منذ آلاف السنين.

لكن كلام السيسي أثار جدلا كبيرا، ودفع رواد مواقع التواصل للتساؤل: إذا كانت مصر تسعى لاتفاق مُلزِم يحفظ حقوقها في نهر النيل، فماذا كانت وظيفة اتفاقية “سد النهضة”؟ ألم تكن مُلزِمة لأثيوبيا بحفظ حقوقنا في المياه؟ أليس هذا ما أخبرنا به نظام السيسي وأذرعه الإعلامية، وظلوا يرددونه على مسامعنا منذ توقيع الاتفاقية في 23 مارس/ آذار 2015؟. وقد وُصفت بأنها “وثيقة إعلان مبادئ” بين مصر وأثيوبيا والسودان حول مشروع سد النهضة.

قام السيسي بالتوقيع على الاتفاقية في مدينة الخرطوم، أثناء حضوره قمة جمعت رؤساء الدول الثلاث، وبحضور ممثل البنك الدولي.. فإن لم تكن الاتفاقية تهدف لإلزام أثيوبيا بالحفاظ على حصتنا في مياه النيل، فماذا كان الهدف منها بالأساس؟! الاتفاقية لم يترتب عليها، سوى منح أثيوبيا شرعية بناء سد عدائي ضخم على نهر النيل، بالقرب من الحدود الأثيوبية السودانية، ليكون بمثابة محبس مائي يمنع دول المصب- وخاصة مصر- من الوصول إلى حصتها التاريخية في المياه.

وبتوقيع النظام المصري وموافقته، استعادت أثيوبيا التمويل اللازم لعملية البناء، بعد أن خاضت بلادنا- عقب ثورة يناير- معركة دبلوماسية شاقة، بلغت ذروتها في زمن الرئيس المنتخب محمد مرسي، عليه رحمة الله، انتهت بالنجاح في استصدار قرار أوروبي روسي صيني في أبريل/ نيسان 2014، بوقف التمويل وتجميد قروض دولية لأثيوبيا بقيمة 3.7 مليار دولار، بينها قرض صيني بمليار دولار، وذلك قبل شهرين فقط من تولي السيسي رئاسة مصر، فجاء توقيعه على الاتفاقية، واعترافه بحق أثيوبيا في بناء السد، لينسف به كل ما فات.

فإذا كان السيسي يعلم أن أثيوبيا تماطل، فلماذا لم يلجأ إلى إلغاء الاتفاقية طوال تلك السنوات؟ ولماذا استقبل رئيس الوزراء الأثيوبي “آبي أحمد” بحفاوة شديدة، في يوليو/ تموز 2023، ومنحه جولة تفقدية داخل العاصمة الإدارية، وزيارة لأشهر معالم البلاد؟! ولماذا التقى في 29 يناير/ كانون الثاني 2018 برئيس وزراء أثيوبيا السابق هايلي ميريام ديسالين، وعقد معه في أديس أبابا قمة ثلاثية تضم مصر وأثيوبيا والسودان، وخرج علينا فيها بتصريحه الشهير: “كونوا مطمئنين تماما، كونوا مطمئنين، فمصلحة مصر من مصلحة أثيوبيا، ولا توجد أزمة على الإطلاق”.

كيف تكون مصلحة مصر هي مصلحة أثيوبيا ذاتها؟ كيف تتفق مصلحة من يبني سدا ضخما يمنع به مياه النيل من التدفق، طمعا في توليد الكهرباء، وإمكانية بيع مياهه إلى الدول الأخرى، مع مصلحة من يمنع عنه السد حصته التاريخية في تلك المياه؟! أم إن السيسي كان يُشير إلى نفسه، حين ذكر كلمة مصر؟! وهل كان السيسي يتعمد دخول مصر في مفاوضات عبثية، والمماطلة بها طوال 10 سنوات، حتى تتمكن أثيوبيا من تشييد السد، وحبس أكبر كمية من المياه خلفه، فتصبح عملية هدمه أمرا مستحيلا، وتنذر بعواقب وخيمة وكارثية على مصر والسودان؟!

تذكرتُ التقرير المطوّل الذي نشرته الـ”إيكونوميست” البريطانية، المجلة الاقتصادية الأشهر في العالم، بعنوان “تخريب مصر” والمنشور في أغسطس/ آب 2016م، حيث وصفت فيه سياسات النظام المصري بقيادة السيسي، منذ توليه الحكم، بأنها محاولات لتخريب كافة مجالات الاقتصاد.. لكني اكتشفت أن أعظم ما تم إنجازه في أجندته التخريبية هذه، هو دوره الخطير في تشييد سد النهضة، والوصول بمصر إلى تلك المرحلة الأتعس في تاريخها، بتعريض أهلها لخطر المجاعة والفناء.

حينها استعادت ذاكرتي الصحفية تصريحات اللواء عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية “أمان”، في سبتمبر 2010، والتي قال فيها: “مصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلي”. وأضاف خلال مراسم تسليم مهامه لخلفه الجنرال “أفيف كوخافي” قائلا: “لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، بما يُعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك عن التعامل مع تلك الاختراقات”.

فأدركت وقتها مَن الدولة التي لها المصلحة الأكبر في تخريب مصر، وكيف تمكنت من تنفيذ ذلك، وكيف تحكمت في صناعة القرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق