طوفان الأقصى منعطف تاريخي
قبل السابع من أكتوبر 2023 كانت الأمة تتخبط خبط عشواء في ليل بهيم، بل ضلت طريقها المرسوم لها المستقيم، لولا رحمة من الله تنزلت ربما بدعوة صادقة من أشعث أغبر، فُتحت لها أبواب السماء، لا ندري أين ومتى وكيف كان شكل تلك الدعوة وداعيها، لكنها أنزلت رحمة إلهية، أعتبرها- وربما معي في الرأي كثير- أنها جاءت على الشكل الذي عايشناه لحظة بلحظة يوم السابع من أكتوبر العام الفائت، أو لنكن أكثر دقة وتحديداً، طوفان الأقصى.
الأمة فعلياً كانت إلى هاوية سحيقة تسير، وكانت المؤامرة تلو الأخرى تحاك وتُنسج في خفاء وعلانية بيد عدو مجرم جبان خبيث، بمعية جيوش من مغفلي ومنافقي الأمة، وقد حفروا أسماءهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في قوائم المرجفين والمخذّلين والخونة.
حاول للحظات قليلة أن تتخيل كيف كان قطار الأمة يسير في سكة، نهايتها واد سحيق لا قعر له، لولا أن منّ الله علينا من حيث لا ندري بمنعطف شبيه بمنعطفات تاريخية سابقة من تلك التي مر قطار الأمة عليها، فتعدل بسببها خط سيره. وكان طوفان الأقصى هو هذا المنعطف الآخر وإن لم يكن الأخير، الذي ظهر للقطار قبل وصوله إلى قعر الوادي، وتسبب بالتالي في دفعه لتصحيح خط سيره، كي يرتقي شيئاً فشيئا، ويخرج من سكة هذا الوادي السحيق.
الحاجة لطوفان هادر
الحاجة كانت ماسة فعلياً في هذه الأمة كي تستيقظ من سباتها العميق، لحدث شبيه بزلزال مؤثر، أو على أقل تقدير، حدث صادم تتنبه الأمة بسببه لما يجري حولها وما يحاك ضدها. لكن ما حدث كان أكثر فاعلية من الزلزال، فكان طوفان الأقصى، الذي سحب معه وما زال يسحب غثاء الأمة، ويكشف سوءات ودمامل وجراثيم كانت في الخفاء، ويحرك هذا الطوفان في الوقت ذاته جغرافيات وديمغرافيات حول العالم، حتى صار هو الحدث الأبرز الذي لا زال يتربع على عرش الأخبار في كل وسائل الإعلام حول العالم لعام كامل، إلى درجة أنه لا يمكن تجاهله يوماً واحداً، حتى أمسى أحدنا وهو لا يدري إلى أين سيمتد هذا الطوفان ويصل، أو كيف يهدأ ويتوقف.
ربما يتساءل متسائلون عن هذا الطوفان ويحدث أحدهم نفسه عن جدواه وما فعله في الأمة.. سؤال مشروع ومنطقي. فأما إن كان السائل من أصحاب الرؤى القاصرة الضبابية، فهو دون شك لن يرى الطوفان إلا خرابا ودمارا، ودماء وأبرياء، وضحايا بالآلاف، فيما أصحاب القرار في الأمة لا يزالوا في سباتهم يعمهون، غير مكترثين ولا مبالين، فيما نسبة لا يمكن تجاهلها من جماهير الأمة قد بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسها، ونسبة أخرى تعمقت في صهينتها وغيها وفجورها.. هكذا تكون الرؤية عند أفراد هذا الفريق.
الطوفان حبل إنقاذ
أما إن كان من أصحاب الرؤى البعيدة الواضحة، فلا شك أنه يرى الطوفان بمثابة حبل إنقاذ تم رميه من حيث لا ندري لإنقاذ الأمة، رغم كل ما يمكن أن ينتج عن عملية الإنقاذ من جهد ونصب وتعب وخسائر مادية وبشرية، لكن هذه- بالمنطق والحس السليم- هي نتائج متوقعة ومنطقية، بل مطلوبة لإتمام عملية الإنقاذ قدر المستطاع، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن كانت الأمة في حالة غرق مؤكدة.
هذا الفريق يرى الطوفان وقد أعاد الاعتبار للأمة المسلمة، والشعب المسلم، وكشف للعالم عن القصة الحقيقية لقضية الأقصى، أو قضية الاحتلال والعدوان والمؤامرات الغربية على هذه الأمة. فمن منا كان يتوقع أو يتخيل يوماً أن يهتم الرأي العام الغربي بقضية فلسطين بعد أن أغرقته الرواية الصهيونية لعقود طويلة، وتشبع منها حتى أعمت بصره وبصيرته، بالتوازي مع تفنن هذا العدو وأدواته في التهديد والتخويف، وبث الرعب في النفوس، لمجرد التساؤل عن حقيقة الصهيونية؟ لا أعتقد أن أحدنا كان يحلم بهذا أو ينتظره في ظل الظروف التي سادت، والواقع الذي كنا نعيشه.
من لا يزال يتباكى على الضحايا والأبنية المدمرة، ويتهم الطوفان بالتسبب بما آلت إليه الأمور في غزة، فإنه لا شك يعيش في غفلة عميقة، ذلك أن الإنجازات البشرية من شاكلة التحرر من الطغيان، والاستقلال، ونزع الحريات من المحتلين والمغتصبين، لا يمكن أن تتحقق بالأماني والأحلام، بل بالدم ليس غيره.
مواجهة خبائث الأمم
الأمة تواجه عدواً خبيثاً ماكراً لئيماً، يريد استئصالها ونزعها من جذورها، ضمن صراع حضاري مستمر لم ولن يتوقف، طالما أن في الأرض نفوساً ترى الإسلام خطراً وجودياً عليها. أتباع الصليبية والصهيونية والهندوسية والمجوسية ومن على شاكلتهم، لا يرون استقراراً وتمكيناً لهم في الأرض، طالما أن الإسلام موجود.. هكذا بلغ معهم التخطيط والتفكير. كل أولئك الأنجاس جمعتهم غاية واحدة، وإن اختلفت عقائدهم ومصالحهم ومآربهم، تلكم الغاية هي القضاء على الإسلام وأهله، اليوم وقبل الغد !
الكيان الصهيوني المحتل ليس هو العدو، بل من قام على صناعته ودعمه ورعايته؛ هذا الكيان هو واجهة وأداة، وهزيمته لا تعني نهاية القصة، بل ستؤدي هزيمته واندحاره إلى أن يكشف العدو الحقيقي عن وجهه بشكل سافر دون نفاق هذه المرة، لتجد الأمة نفسها في مواجهة حقيقية مع كل أولئك الأنجاس، متحدين متضامنين بصورة وأخرى.
من هنا يمكن القول إن تكاتف قوى الشرك والشر، ودعمها لهذا الكيان الشيطاني، إنما هو نوع من تأخير تلك المواجهة الحضارية الحاسمة، التي ستحدد مصير الحضارة الغربية المهيمنة على البشرية حالياً؛ فإما أن تستمر لقرون أخرى، أو تكون بداية النهاية لها.. هم يدركون ذلك منذ القدم، وأن مواجهة أمة مسلمة ناهضة متحدة، تعني زوال قوتهم وقدرتهم بحسب السنن الإلهية في الأرض.
وكلما نجحت قوى الشر تلك في إبقاء الأمة متفرقة ضعيفة، يأكل بعضها بعضا، ابتعدت عن المواجهة الحاسمة المنتظرة. وبهذا نفهم سر دعمهم السخي اللامحدود لكيان الشر هذا، الذي فرق وما زال يفرق أو يمزق جسد الأمة، ونجح في التغلغل بين مفاصلها وأجزائها الحيوية كما السرطان يفعل في الجسم البشري.
غزة.. جذوة متقدة
الحضارة الغربية رغم إيجابياتها الكثيرة منذ ظهورها، فإن سلبياتها زادت واستفحلت، وخطرها على البشرية جمعاء انكشف وتعاظم.. وبالتالي، وبحسب قوانين التدافع، لابد أن تبدأ رحلة النهاية لها اليوم وقبل الغد.
غزة اليوم هي بمثابة جذوة متقدة، يرون أنه لا بد من إطفائها الآن وقبل فوات الأوان؛ إن بقاء تلك الجذوة متقدة، يعني احتمالية أن تمتد حرارتها وتشعل فتائل أخرى في الأمة، وتتسبب في نهوضها من كبوتها، ويتحقق ما يعمل كل أولئك الأنجاس على تأخيره حتى حين..
ومن هنا، نجد أن إبقاء غزة صامدةً هو فرض عين على كل مسلم، ومطلوب دعم صمودها بكل المتاح والمتيسر. وفي الوقت ذاته، لا يجب منح المجال لأي متخاذل أو مرجف أو منافق أن يقوم بفعل الإرجاف والخذلان، وبث الخوف في النفوس تحت أي مبرر أو شعار، بل أجد أن مقاتلتهم بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، مقدمة على مقاتلة قوى الشر تلك، لأن التمكين الداخلي جالب للتمكين الخارجي بإذن الله الذي يتكفل بكل ما هو جميل، وهو- سبحانه- دوماً وأبداً حسبنا ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق