الخميس، 12 ديسمبر 2019

أسباب عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد عن القيادة العامة للجيش الإسلامي


أسباب عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد عن القيادة العامة للجيش الإسلامي
د. علي الصلابي
شكل عصر صدر الإسلام، والمتمثل بمرحلة النبوة ودولة الرسول الأعظم (ﷺ) ومن ثم تاريخ الخلفاء الراشدين، مصدراً روحياً وتشريعياً للمسلمين على مر عصورهم، وأما شخصيات ذلك العصر كالصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم؛ فهم قدوة الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان، ولذلك فقد تصيدت الأقلام المعادية للإسلام وتاريخه كل ما أمكن أن تنفذ من خلاله إلى تشويه وتحريف هذا التاريخ العظيم.
   
وقد وجد أعداء الإِسلام من شدَّة حقدهم وضغائنهم مجالاً رحباً لتصيُّد الرِّوايات الَّتي تظهر صحابة رسول الله في مظهرٍ مشين، فإِذا لم يجدوا ما يشفي نفوسهم؛ اختلقوا ما ظنُّوه تسيير لعقول القارئين من أبناء الأمة، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما تتناقله الأجيال، وتُسطِّره كتب المؤلفين. وقد تعرَّض كلٌّ من الفاروق عمر بن الخطاب وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإِسلام؛ الَّذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما العظيمة، ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل أمير المؤمنين الفاروق عمر لسيف الله خالد رضي الله عنهما، وألصقوا التُّهم الباطلة بالرَّجلين العظيمين، وأتوا برواياتٍ لا تقوم على أساسٍ عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التَّحقيق العلميِّ الرصين. وِلذا أردت أن أسرد لكن قصص الاختلاف بين الصحابة ومن بينها مسألة عزل خالد بن الوليد دون تزويرٍ للحقائق والوقائع التاريخية. وقد مرَّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسبابه الموضوعيَّة.
    

العزل الأوَّل (عزل خالد عن إمارة الأمراء في الشام)
عزل عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ خالد بن الوليد في المرَّة الأولى عن القيادة العامَّة، وإِمارة الأمراء بالشَّام، وكانت هذه المرَّة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة غداة تولِّي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصِّدِّيق عن الفاروق في التَّعامل مع الأمراء، والولاة، فالصِّدِّيق كان من سنَّته مع عمَّاله، وأمراء عمله أن يترك لهم حرِّيَّة التَّصرُّف كاملةً في حدود النِّظام العامِّ للدَّولة، مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثمَّ لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده، أو بيد عمَّاله، وولاته، فللوالي حقٌّ يستمدُّه من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوعٍ في الجزئيَّات إِلى أمر الخليفة. وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مالٍ، أو غيره ما دام قائماً في رعيتهم.
  
أثبت الواقع التَّاريخي: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان موفقاً أتمَّ التَّوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النَّظير، فعزل، وولَّى، فلم يكن من ولاه أقلَّ كفايةً ممَّن عزله
وكان الفاروق قد أشار على الصِّدِّيق بأن يكتب لخالدٍ ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ: ألا يعطي شاةً، ولا بعيراً إِلا بأمره، فكتب أبو بكر إِلى خالدٍ بذلك، فكتب إِليه خالد: إِما أن تدعني وعملي، وإِلا فشأنُك، وعملُك، فأشار عليه بعزله، ولكنَّ الصِّدِّيق أقرَّ خالداً على عمله، ولما تولَّى الفاروق الخلافة؛ كان يرى أنَّه يجب على الخليفة أن يحدِّد لأمرائه، وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم، ويحتِّم عليهم أن يردُّوا إِليه ما يحدث حتَّى يكون هو الَّذي ينظر فيه، ثمَّ يأمرهم بأمره، وعليهم التَّنفيذ، فعن مالك بن أنسٍ: أنَّ عمر لمَّا ولِّي الخلافة كتب إِلى خالد: ألا تعطي شاةً، ولا بعيراً إِلا بأمري. فكتب إِليه خالد: إِمَّا أن تدعني وعملي، وإِلا فشأنك بعملك. فقال عمر: ما صدقتُ الله إِن كنت أشرت على أبي بكرٍ بأمرٍ، فلم أنفِّذه. فعزله. ثمَّ كان يدعوه إِلى العمل، فيأبى إِلا أن يخلِّيه يفعل ما يشاء، فيأبى عليه.
   
فعزل عمر خالداً من وجهةٍ سياسية في الحكم، وحقُّ الحاكم في تصريف شؤون الدَّولة ومسؤوليَّته عنها، وطبيعيٌّ أن يقع كلَّ يومٍ مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيءٌ غريبٌ يحتاج إِلى بيان أسباب تتجاذبها رواياتٌ، وآراء، وميولٌ، وأهواءٌ، ونزعاتٌ. وقد أثبت الواقع التَّاريخي: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان موفقاً أتمَّ التَّوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النَّظير، فعزل، وولَّى، فلم يكن من ولاه أقلَّ كفايةً ممَّن عزله، ومردُّ ذلك لروح التَّربية الإِسلاميَّة الَّتي قامت على أن تضمن دائماً للأمَّة رصيداً ذاخراً في البطولة، والكفاية السِّياسيَّة الفاضلة. وقد استقبل خالدٌ هذا العزل بدون اعتراضٍ، وظلَّ رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتَّى فتح الله عليه قنَّسرين، فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إِلى أمير المؤمنين يصف له الفتح، وبلاء خالد فيه، فقال عمر قولته المشهورة: أمَّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرِّجال منِّي!
   
هذا وقد عمل خالد تحت إِمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات، فلم يعرف عنه: أنَّه اختلف عليه مرَّةً واحدةً، ولا ينكر فضل أبي عبيدة، وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالدٍ، فقد كان لحفاوته به، وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته، والأخذ بمشورته، وإِعظامه لآرائه، وتقديمه في الوقائع الَّتي حدثت بعد إِمارته الجديدة أحسن الأثر في صفاء قلبه، صفاءً جعله يصنع البطولات العسكريَّة النَّادرة، وعمله في فتح دمشق، وقنَّسرين، وفحل شاهدُ صدقٍ على روحه السَّامية الَّتي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد، ويحفظ لنا التَّاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله:.. وما سلطان الدُّنيا أريد، وما للدُّنيا أعمل، وإِنَّ ما ترى سيصير إِلى زوالٍ وانقطاعٍ، وإِنَّما نحن أخوان، وقُوَّامٌ بأمر الله عزَّ وجل، وما يضير الرَّجل أن يلي عليه أخوه في دينه، ودنياه، بل يعلم الوالي: أنَّه يكاد يكون أدناهما إِلى الفتنة، وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إِلا من عصم الله عزَّ وجل، وقليل ما هم.
وعندما طلب أبو عبيدة من خالدٍ أن ينفِّذ مهمَّة قتاليَّةً تحت إِمرته؛ أجابه خالد قائلاً: أنا لها ـ إِن شاء الله تعالى ـ وما كنت أنتظر إِلا أن تأمرني! فقال أبو عبيدة: استحييت منك يا أبا سليمان! فقال خالد: والله لو أُمِّر عليَّ طفلٌ صغيرٌ لأطيعنَّ له، فكيف أخالفك وأنت أقدم منِّي إِيمانًا، وأسبق إِسلاماً، سبقت بإِسلامك مع السَّابقين، وأسرعت بإِيمانك مع المسارعين، وسمَّاك رسول الله (ص) بالأمين، فكيف ألحقك، وأنال درجتك، والآن أُشهدك أنِّي قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى، ولا أخالفك أبداً، ولا وليتُ إِمارةً بعدها أبداً. ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل أتبع قوله بالفعل، وقام على الفور بتنفيذ المهمَّة المطلوبة منه.
     

العزل الثاني (عزل خالد بن الوليد عن ولاية قنسرين)
في قنِّسرين جاء العزل الثاني لخالدٍ، وذلك في السَّنة السَّابعة عشرة للهجرة، فقد بلغ أمير المؤمنين: أنَّ خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم، وتوغَّلا في دروبهما، ورجعا بغنائم عظيمةٍ، وأنَّ رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه، منهم الأشعثُ بن قيسٍ الكندي، فأجازه خالدٌ بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيءٌ في عمله، فكتب عمر إِلى قائده العامِّ أبي عبيدة يأمره بالتَّحقيق مع خالد في مصدر المال الَّذي أجاز منه الأشعث تلك الإِجازة العامرة، وعزله عن العمل في الجيش إِطلاقًا، واستقدمه المدينة، وتم استجواب خالد، وقد تمَّ استجواب خالد بحضور أبي عبيدة، وترك بريد الخلافة يتولَّى التحقيق، وترك إِلى مولى أبي بكر يقوم بالتَّنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالدٍ أن يكون مدَّ يده إِلى غنائم المسلمين، فأجاز منها بعشرة آلافولما علم خالد بعزله، ودَّع أهل الشَّام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إِظهار أسفه على هذا العزل الَّذي فرَّق بين القائد وجنوده أن قال للنَّاس: إِن أمير المؤمنين استعملني على الشَّام حتَّى إِذا كانت بثينةً، وعسلاً؛ عزلني. فقام إِليه رجلٌ فقام: اصبر أيها الأمير! فإِنَّها الفتنة. فقال خالد: أما وابن الخطَّاب حيٌّ، فلا، ورحل خالد إِلى المدينة، فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمثلاً:
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعَ كُصُنْعِكَ صَانِعٌ   وَمَا يَصْنَعُ الأقوامُ فَالله يَصْنَعُ
   
في قول عمر رضي الله عنه ولكنَّ النَّاس فتنوا به، فخفت أن يُوكَلوا إِليه، ويُبتلَوا به، يظهر خشية عمر من فتنة النَّاس بخالدٍ، وظنِّهم أنَّ النَّصر يسير في ركاب خالدٍ، فيضعف اليقين بأنَّ النَّصر من عند الله
وقال خالدٌ لعمر: لقد شكوتُك إِلى المسلمين، وبالله إِنَّك في أمري غير مُجملٍ يا عمر! فقال عمر: من أين هذا الثَّراء؟ قال: من الأنفال، والسُّهمان، ما زاد على السِّتين ألفًا فلك، فقوَّم عمر عروضه فخرجت إِليه عشرون ألفًا، فأدخلها بين المال. ثمَّ قال: يا خالد! والله إِنَّك عليَّ لكريمٌ، وإِنَّك إِليَّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. وكتب عمر إِلى الأمصار: إِنِّي لم أعزل خالداً عن سخطةٍ، ولا خيانةٍ، ولكنَّ النَّاس فُتنوا به، فخفت أن يوكلوا إِليه، ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا: أنَّ الله هو الصَّانع، وألا يكونوا بعرض فتنةٍ.
    
أسباب العزل؛ دروس وفوائد
ومن خلال سيرة الفاروق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالدٍ ـ رضي الله عنه ـ في الأمور التَّالية:
حماية التَّوحيد:
ففي قول عمر رضي الله عنه ولكنَّ النَّاس فتنوا به، فخفت أن يُوكَلوا إِليه، ويُبتلَوا به، يظهر خشية عمر من فتنة النَّاس بخالدٍ، وظنِّهم أنَّ النَّصر يسير في ركاب خالدٍ، فيضعف اليقين بأنَّ النَّصر من عند الله، سواءٌ كان خالدٌ على رأس الجيوش، أم لا. وقد أشار شاعر النِّيل حافظ إِبراهيم رحمه الله -إِلى تخوُّف عمر، فقال في عمريَّته في الدِّيوان:
وَقِيْلَ خَالَفْتَ يَا فَارُوقُ صاحِبَنَا 
فِيْهِ وَقَدْ كَانَ أَعْطَى القَوْسَ بَارِيْهَا
فقَالَ خِفْتُ افْتِتَانَ المُسْلِمِيْنَ بِهِ       
وَفِتْنَةُ النَّفْسِ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيْهَاـ
    
اختلاف النَّظر في صرف المال:
كان عمر يرى أنَّ فترة تأليف القلوب، وإِغراء ضعفاء العقيدة بالمال، والعطاء قد انتهت، وصار الإِسلام في غير حاجةٍ إِلى هؤلاء، وأنَّه يجب أن يوكل النَّاس إِلى إِيمانهم، وضمائرهم، حتَّى تؤدِّي التَّربية الإِسلاميَّة رسالتها في تخريج نماذج كاملةٍ لمدى تغلغل الإِيمان في القلوب، بينما يرى خالدٌ: أنَّ ممَّن معه من ذوي البأس، والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيَّتهم لمحض ثواب الله، وأنَّ أمثال هؤلاء في حاجةٍ إِلى من يقوِّي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال، كما أنَّ عمر يرى: أنَّ ضعفة المهاجرين أحقُّ بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إِلى النَّاس بالجابية من عزل خالدٍ، قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، ولا شكَّ: أن عمر، وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إِليه، ولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالدٌ رضي الله عنهما.
   
اختلاف منهج عمر عن منهج خالدٍ في السياسة العامَّة:
فقد كان عمر يصرُّ على أن يستأذن الولاة منه في كلِّ صغيرةٍ، وكبيرةٍ، بينما يرى خالدٌ: أنَّ من حقه أن يُعطى الحرِّيَّة كاملةً من غير الرُّجوع لأحدٍ في الميدان الجهادي، وتطلق يده في كلِّ التَّصرُّفات إِيماناً منه بأنَّ الشَّاهد يرى ما لا يراه الغائب، ولعلَّ من الأسباب أيضاً: إِفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتَّى تتوافر في المسلمين نماذج كثيرةٌ من أمثال خالد، والمثنَّى، وعمرو بن العاص، ثمَّ ليدرك النَّاس: أنَّ النَّصر ليس رهنًا برجلٍ واحدٍ، مهما كان هذا الرَّجل.
      

وفاة خالد بن الوليد.. ماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت
دخل أبو الدَّرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء! لئن مات عمر؛ لترينَّ أموراً تنكرُها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك! فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمورٍ، لمَّا تدبَّرتها في مرضي هذا، وحضرني من الله حاضرٌ؛ عرفت: أنَّ عمر كان يريد الله بكلِّ ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتَّى أخذ فرد نعلٍ وأخذت فرد نعلٍ، ولكنَّه فعل ذلك بغيري من أهل السَّابقة، وممَّن شهد بدراً، وكان يغلظ عليَّ، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته عليَّ، وكنت أدلُّ عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريباً، ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الَّذي ذهب عنِّي ما كنت أجد عليه، وكان يكثر عليَّ عنده، وما كان ذلك إِلا على النَّظر: فقد كنت في حربٍ، ومكابدةٍ، وكنت شاهداً، وكان غائباً، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك في أمري.

المشاهد التي ذكرناها لا تحمل في طياتها حقد ولا ضغينة كما أشاع البعض وروج له، بل ساد بينهما أدب الخلاف والخصومة وذلك بناء على اجتهاد خاص لكل منهما
ولما حضرته الوفاة، وأدرك ذلك؛ بكى، وقال: ما من عملٍ أرجى عندي بعد لا إِله إِلا الله من ليلةٍ شديدة الجليد في سرِيَّةٍ من المهاجرين، بتُّها وأنا متترسٌ والسَّماء تنهلُّ عليَّ، وأنا أنتظر الصُّبح حتَّى أغير على الكفَّار. فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا، وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبرٍ إِلا وفيه ضربةٌ بسيفٍ، أو رميةٌ بسهمٍ، أو طعنةٌ برمحٍ، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! لقد طلبت القتل في مظانِّه، فلم يُقَدَّرْ لي إِلا أن أموت على فراشي، وأوصى خالدٌ أن يقوم عمر على وصيَّته، وقد جاء فيها: وقد جعلتُ وصيَّتي، وتركتي، وإِنفاذ عهدي إِلى عمر بن الخطَّاب، فبكى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال له طلحة بن عبيد الله: إِنَّك وإِيَّاه كما قال الشاعر: 
لاَ أَلْفَيَنَّك بَعْدَ الْمَوْتِ تَنْدُبُنِي         
وَفِي حَيَاتِي مَا زَوَّدْتَنِي زَادِي
  
فقد حزن عليه الفاروق حزناً شديداً، وبكته بنات عمِّه، فقيل لعمر أن ينهاهنَّ، فقال: دعهنَّ يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقعٌ، أو لقلقةٌ، على مثل أبي سليمان تبكي البواكي، وقال عنه: قد ثَلَمَ في الإِسلام ثلمةً لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سداداً لنحور العدوِّ، ميمون النَّقيبة. وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناسٍ من بني مخزوم، وكان هشام شاعراً، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلمَّا أنشده؛ قال له: قصَّرت في الثَّناء على أبي سليمان رحمه الله ـ إِن كان ليُحبُّ أن يذلَّ الشِّرك وأهلُه، وإِن كان الشَّامت به لمعترضاً لمقت الله، ثمَّ تمثَّل بقول الشَّاعر:
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلافَ الَّذِي مَضَى        
تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلَهَا فَكَأنْ قَدِفَمَا
عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بِنَافِعِي           
 وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ بَعْدِي بِمُخْلِدِي
    
ثمَّ قال: رحم الله أبا سليمان! ما عند الله خيرٌ له ممَّا كان فيه، ولقد مات فقيداً، وعاش حميداً، ولقد رأيت الدَّهر ليس بقائلٍ. 
هذا وقد توفي، ودفن بحمص ببلاد الشَّام عام 21 هـ، رحمه الله رحمةً واسعةً، وأعلى ذكره في المصلحين، توفي خالد بن الوليد وهو راضٍ عن الفاروق عمر، وقد جزع عمر رضي الله عنه جزعاً كبيراً فأثنى عليه ورثاه بما هو أهله، وإن المشاهد التي ذكرناها لا تحمل في طياتها حقد ولا ضغينة كما أشاع البعض وروج له، بل ساد بينهما أدب الخلاف والخصومة وذلك بناء على اجتهاد خاص لكل منهما في سبل وطرق طاعة الله عز وجل وخدمة أمته، وأحاط كل ذلك الحب في الله والأخوة في الإسلام.
المراجع:
1. إبراهيم شعوط، أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، (1408 ه)، المكتب الإسلامي، ص 134:132.
2. أبو جعفر الطبري، تاريخ الأمم والملوك، (1987)، دار الفكر، بيروت، ج 5، ص 41.
3. أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، (1986)، دار النفائس، ص 366.
4. سالم البهناوي، الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديمقراطية، 1997، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط2، ص186.
5. صادق عرجون، خالد بن الوليد، 1987، الدار السعودية، ص 346:321.
6. عباس محمود العقاد، عبقرية خالد، المكتبة العصرية، بيروت، ص 156:154.
7. علي محمد الصلابي، عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، 2005، مؤسسة اقرأ، القاهرة، ص 350:343.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق