د. محمد عباس
الخميس 01 ديسمبر 2011
الأفكار بالنسبة لي موجات هائمة في الأثير.
الأفكار قضايا . كل فكرة قضية. وكل قضية كائن حي. كأنه يغرق أمامي. يتشبث بي كي أنقذه وأنقله إلى شاطئ الأمان.
نعم: كل فكرة كائن حي، مخلوق حي يستغيث ويتألم ويصرخ. كائن حي، عاجز، مسكين الآن، مظلوم الآن، مقموع الآن، مسحوق الآن، مطموس الآن، وقد يموت الآن، وإن لم أبادر بإنقاذه فقد لايبادر بإنقاذه سواي فيغوص ويضمحل ويتلاشى ويموت.
لكن الموت لا ينهي حكايته بل يبدأ هلاكي أنا، لأنني واثق أن هذه الأفكار-الكائنات الحية- وإن غاصت واضمحلت وتلاشت وحتى ماتت فإنها سوف تبعث يوم القيامة حية من جديد لتختصمني أمام الله سبحانه وتعالي.
أتساءل في رعب، أتخيل الأمر وقد انقلب، حين تدفعني فكرة أهملتها من فوق الصراط لأغرق في النار ورحت أغوص وأغوص وأغوص فأفاجأ بها تتحلق حول الصراط تنظر إليّ في شماتة الانتقام والقصاص, وكلما حاولت الهروب من الجحيم أعادت دفعي إليها فأصرخ مستنقذا ومستغيثا فيدوي صوتها تردده نفثات الجحيم:- أهملتنا في الدنيا والآن نهملك، تركتنا نموت وهنا نتركك لا تموت أبدا، نسيتنا، وكذلك اليوم تُنسى.
*** كل مقال محنة.. وكل محنة احتمال كارثة.. كارثة شخصية تصيبني.. تصيبني أنا..وكلما ازدادت الخطوب، وتهاطلت المصائب، وتكاثرت الفتن، تدهمني الحيرة، وينقض السؤال ظهري، سؤال يقول: في أي الشئون أكتب؟ ولأي الفتن أتصدى؟ وعن أي الخطوب أدافع؟ أتقلب على الجمر و أقبض عليه إذ أتساءل: أي الكوارث أولى بالمواجهة؟ و أي المصائب لا يجوز التواني عن الحديث عنها؟ أيها ستهلكني يوم القيامة؟ أيها تدفعني إلى النار؟ أيها تعرقلني حين أحاول الهرب؟.كلما حدث ذلك تتغير أولوياتي، فأنصرف عما نويت التصدي له، وأتحول عما أردت الخوض فيه، ليس انصرافا عن المهم، بل اتجاها للأهم، فأكون كالأب الذي ينصرف عن ابنه الذي تصرعه الحمى، إلى ابنه الآخر الذي يكاد النزيف أن يقتله، وما أكثر ما انتويت أن أكتب حاشية في أمر ما، حاشية من بضعة سطور، فإذا بالحاشية تتحول إلى مقال، وكم من مرة انتويت أن أكتب مقالا واحدا أعود بعده إلى ما كنت فيه، لكن المقال يستدعي أجزاء وأجزاء وأنا أدرك أنني لم أكمله، و أن هناك نقاطا في غاية الأهمية لم أذكرها..
وكلما حدث ذلك ينساب إلىّ خيال حزين، ربما كان رؤيا، وربما كان من خلال أستار الزمن رؤية، عن فارس، ربما كان في الأندلس أو في العراق أو في فلسطين أو في سيناء أو في البوسنة والهرسك أو الفلبين أو كوسوفا أو في بخارى أو في سمرقند، أو الشيشان أو كشمير أو في دمشق أوبيروت أوالرياض أو دارفور أو صنعاء أوالقاهرة، فارس يحاول الدفاع عن قلعة تهدمت حصونها ونقبت ثغورها، وانشغل ولاتها الخونة، و أمراؤها اللصوص، انشغلوا عن الدفاع عنها بجمع ما سرقوه منها والهرب، ويقف الفارس حيرانا، هذا الثقب أولى بالدفاع أم تلك الثغرة، تلك الثلة من فرسان العدو أم تلك القلة، هل يندفع إلى اليسار أم اليمين أولى، إلى الأمام أم الخلف أخطر، كلما اتجه إلى مكان اكتشف أن الخطر في المكان الآخر أشد، وكلما عزم على أمر وجد أن فرصة تنفيذه قد ولت، تجيئه النداءات من كل صوب، والاستغاثات من كل جهة، اختلطت الأصوات فما عاد يعلم إن كان الصوت صوت أخيه أم صوت عدوه، وما إذا كانت الاستغاثة صادرة لتحذيره أم لتضليله كي يندفع إلى المكان الخطأ في الزمان الخطأ، اشتبكت الأصوات واختلطت الملامح، الأعداء يلبسون زى قومه وقومه يلبسون زى الأعداء، لم يعد يعرف، لم يعد يفهم، عيناه تكذبان وأذناه تكذبان وفكره يختل، إلى من يستجيب؟ من يُنجد وبمن يستنجد؟
تدور عيناه، تنسعر عيناه، يجرى لكن في نفس النقطة من المكان، يلهث، يدور حول نفسه، يظل يدور، ويدور ويدور..
*** يتساءل الفارس وأتساءل معه: لماذا خاننا الربان؟ لماذا تحالف مع الأعداء؟ لماذا تآمر؟ لماذا يتباطأ؟ لماذا يتواطأ؟..وأتساءل:لماذا خدعنا مثقفونا؟..لماذا اتشحوا بأردية الأعداء؟..لقد انهزموا فلماذا حين انهزموا لم يذهبوا إلى بلاد الأعداء ليعيشوا فيها؟..لماذا ما داموا لم يذهبوا لم يصمتوا حتى يموتوا؟..لماذا روجوا بيننا فكر الهزيمة؟..لماذا زيفوا التاريخ ولماذا يزيفونه؟ لماذا يدفعوننا للفخر بما ينبغي أن نخجل منه وللخجل مما ينبغي أن نفخر به.لماذا لماذا؟..وكيف أواجههم؟ هل بالإهمال؟ هل بالتصدي؟ هل بالقوة التي نرهب بها عدو الله وعدونا؟ هل باللين الذي نأتلف به قلوبهم؟ وهل يمكن تأليف قلوب كالحجارة بل أشد قسوة؟كيف نواجه؟ وماذا نواجه؟ وبأيهم نبدأ؟ وبأي أفكارهم نهتم ونهدم؟
ليس أمامنا إلا العقل وترتيب الأولويات..لكن العقل لا يسعفنا دائما.. بل.. كثيرا ما يخذلنا.. ذقت مرارة ذلك..
كان ذلك منذ ما يقرب من أربعين عاما ..وعلى الرغم من كل هذا الزمن فما زالت تفاصيل ما حدث تكوى قلبى ومرارة ملح دموعه فى حلقى..
كنا فى موسم الحج وكنت قد انتدبت للعمل طبيبا فى مستشفى عرفات.. وكنت أحج..كانت العادة أن يغلق المستشفى أبوابها مع النفرة.. وأن يُحوّل من فيها من المرضى إلى مكة.. لكن اكتشاف انتشار وباءى الالتهاب السحائى والكوليرا بين الحجاج فى ذلك العام غيّر من ذلك النظام فصدرت الأوامر ببقائنا فى المستشفى لرعاية المرضى.. واستفتينا شيخ الحرم فأفتى لنا بأنه ينطبق علينا ما ينطبق على السقاة والرعاة وألا نبيت فى منى بل نؤدى المناسك ثم نعود لنبيت فى عرفة.. على أن نحتفظ بإحرامنا حتى طواف الإفاضة..وإزاء الظرف المفاجئ لم تكن هناك مستلزمات إعاشتنا .. لم يكن ثمة طعام ولا شراب بينما كانت هناك كميات هائلة من الأدوية والعقاقير..
رحنا نتوضأ للصلاة بمحلول الملح بديلا عن الماء ونشرب محلول الجلوكوز بديلا عن الطعام ..
يتهددنا – بين الجوع والعطش وانعدام الماء للتنظيف - انتقال الأمراض إلينا.. وكنت أؤدى مناسك الحج للمرة الأولى وكنت أتخبط فى ملابس الإحرام..كنت أجيش بالمشاعر بعد المزدلفة ومنى ورمى جمرة العقبة الكبرى..وكنت مجهدا من عمل متواصل طيلة الأيام السابقة ..وكنت جائعا وعطشانا ونصف عار..كان المستشفى مكدسا بالمرضى وكان الموت يتجول بيننا حتى كدنا نراه..كان الأمر هائلا وغريبا وبدا أنه لا ينتمى لحياتنا الدنيا ربما ينتمى إلى دنيا الأحلام والرؤى.. أو بدا أنه مشهد من مشاهد الآخرة.. كان الموت حاضرا وكان مسيطرا .. الموت الذى نقابله فى حياتنا العادية مرة أو مرتين فى العام.. وربما كأطباء نراه مرة فى الشهر أو حتى فى الأسبوع ..
هذا الموت نقابله الآن فى الساعة الواحدة مرات ومرات بل أحيانا يتكرر فى الدقيقة الواحدة.. استطعنا بجهد جهيد التعامل مع الوضع الطارئ وسط أحزان فاجعة لموت العشرات من الحجاج .. ذلك الحزن الثقيل الخانق الذى لا يتيح لك أى وقت تتأمله فيه.. لم أكن أحسب أن الموت يمكن أن يأتى بمثل هذه السهولة.. بمثل هذه التكرارية .. وخيم علىّ الشعور بأن ملك الموت يدير المستشفى إدارة مباشرة..وأنه لا يمكن أبدا مقاومته..لو استمرت الوفيات بهذا المعدل فسنفنى جميعا فى أيام قليلة.. بل ستبيد البشرية كلها فى بضعة أسابيع..أحسست بجبروت الله فملأ الرعب قلبى..كنا قد قضينا 24 ساعة دون نوم .. أديت مناسك الحج ثم عدت إلى المستشفى قبل فجر النحر فهرع زملائى جميعا وبقيت وحدى ..كان لي ميزة السبق وكان من المحتمل ألا أستطيع العودة إليهم في الوقت المناسب مما يترتب عليه ألا يحجوا.. وكان علىّ أن أدفع الميزة التي أخذتها بأن يذهبوا جميعا لأبقى وحدي.. رحت أحقن المرضى بالمحاليل وأراقب الضغط والنبض وأعطى مخفضات الحرارة والمضادات الحيوية وأغمض عيون الموتى وأتلو الشهادتين وأحرر شهادات الوفاة ..
هل يعرف ذووهم أنهم يموتون الآن؟..ولم يكن هناك أى وقت للإجابة عن السؤال أو التأمل فيه..كنت جائعا عطشانا نصف عار أكاد أسقط من الإعياء والإرهاق مترقبا وصول زملائى حتى أركن لبعض راحة..
لم يأت الزملاء .. ساعات وساعات ولم يحضروا..وليس ثمة هنيهة أريح فيها جسدى المكدود.. ومضى نهار يوم النحر كله ولم يحضروا .. بل حضر فى المساء قول من سيارات الإسعاف يحمل المصابين فى حوادث الطرق..نظرت ذاهلا .. كنت أتخيل أننى سأسقط فى أية لحظة من الإعياء بسبب المجهود المضنى الذى بذلته .. لم أكن أتخيل أننى أستطيع أن أواصل .. الآن علىّ لا أن أواصل فقط بل أن أتعامل مع الوضع الجديد أيضا ..أدركت على الفور أننى يجب أن أتعامل مع هذا الوضع كما يتعامل الأطباء فى ميدان المعركة ..
فأجريت حصرا سريعا للمصابين .. كانوا أربعة عشر مصابا يلبسون جميعا ملابس الإحرام.. وزعهم رجال الإسعاف على حجرات الاستقبال..
وضعوا المصاب الأول – كيفما اتفق - وحده فى غرفة .. كانت الغرفة صغيرة جدا بحيث لا تكاد تتسع لكلينا.. لم أعرف أبدا طيلة الأيام السابقة لماذا صمموا هذه الغرفة بهذا الصغر.. كانت مهجورة ولم تستعمل ولم أر من يدخلها من قبل أبدا .. بل إننى فوجئت بوجودها..
فحصت المريض.. كان شابا .. ربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره.. لم تكن به إصابات ظاهرة.. حاولت بالعربية والإنجليزية التفاهم معه وسؤاله مم يشكو .. كان مكتمل الوعى لكنه لم يفهم لغتى.. كنت أحاول التفاهم معه.. كنت أتحدث إليه.. لم يقدم على مجرد المحاولة كما كان الآخرون يفعلون عادة حين كانوا يحاولون فيفشلون فيهتفون بعربية صحيحة: الله أكبر.. محمد رسول الله ..
ثم يصمتون وكأنهم قد قدموا أوراقهم وهويتهم ودليل قرابتهم .. قدّموا الأهم أما الباقى فتفاصيل مكررة متشابهة لا معنى لها ولا قيمة .. لم يفعل هذا المريض ذلك.. فحصت الضغط والنبض.. كانا فى حدود الطبيعى.. فحصت باقى الأعضاء.. لم يكن هناك سوى بقايا دم متجلط إثر رعاف.. كانت حالته جيدة وكان غيره أحوج لى .. فحصت الباقين و أنا ألقى تعليمات حاسمة وسريعة لهيئة التمريض تتضمن الإسعافات السريعة والعلاج والدم والبلازما والأكسيجين وطلب سيارات إسعاف لتحويل من يحتاج لمستشفيات متخصصة.. طلبت من هيئة التمريض متابعة النبض والضغط وإبلاغى على الفور بما يستجد .. أكملت الفحص الأولى للمرضى .. حاولت مواجهة ما يتهدد الحياة بصورة عاجلة كنزيف حاد أو اختناق .. وضعت الجبائر للكسور وحقنت المسكنات وأعطيت التعليمات اللازمة لحالات النزيف الداخلى..
وصلت أخيرا إلى مصاب مصرى.. كانت ضلوعه مهشمة .. كل ضلوعه تقريبا بدرجة أذهلتنى كيف وقع الحادث وما هو كنهه.. كان ضغط الدم صفرا والنبض لا يحس لكنه كان مكتمل الوعى.. وكان الدم يفور كالزبد من فمه.. كنت أضخ المحاليل والدم فى عروقه و أشفط السوائل من فمه وأستعمل الأدوات الجراحية للبحث عن وريد أكبر أحقن فيه مزيدا من الدم.. كنت منفعلا تماما ومستغرقا بدرجة لا يمكن وصفها.. وكان هو يحدثنى بضعف فى صفاء واستسلام الرضا لا استسلام اليأس: لا تتعب نفسك يا دكتور فإننى أحس بالموت .. أشعر بروحى تطلع الآن.. أحس بها تطلع فعلا.. ربما لا تصدقنى لكننى أقول لك الحقيقة .. لن أمكث طويلا .. رحت أشجعه.. أكذب عليه وأشجعه..
قال فى استسلام كامل: أنا من المنصورة .. أعول ثلاثة عشر منهم أبى وأمى.. ليس لهم سواى .. حملق .. بدا أنه ينظر إلى مالا أراه وهمس: لهم الله .. لهم الله .. وكان كل ما فى الوجود يبكى إلا عينى.. رحت أواصل طمأنته.. كان علىّ أن أقوم بواجبى الأخير..
قلت له بإذن الله ستشفى لكن إن كنت تريد إبلاغ أهلك بشىء أو أن توصى بشىء أعطنى رقم هاتف أتصل به أو عنوانا أكتب إليه ..حملق فىّ لكنه لم يكن يرانى .. همس .. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. ودون حتى رجفة أسلم الروح .. مات ..
لم يكن لدى أى متسع من الوقت كى أمارس فيه رفاهية التفريج عن الألم أو التعبير عنه .. انطلقت إلى سواه .. حاجز اللغة سكين يذبح التواصل..أرتب الحالات طبقا لخطورتها .. لكن هل أنا مصيب فى تقديرى لدرجة الخطورة.. أى خطأ أو سوء فى التقدير لا عاقبة له سوى الموت .. ولم يكن هناك أى وقت للإجابة عن السؤال..
كل آن وآخر كان أحد الممرضين يأتى ليطلب نجدتى لمريض من مرضى الكوليرا أو الالتهاب السحائى.. وكنت أترك المصابين وأجرى.. أصف الممكن من العلاج .. ويأتى المسعف بعد قليل ليخبرنى: هذا تحسن وذاك مات .. كنت أسمعه بأذن أما الأذن الأخرى فمع المصاب الذى أتابعه .. أحدق فى عيون الأحياء كى أقدر حالتهم وفى حدقات الموتى كى أتيقن من موتهم.. كانت العيون الميتة تبدو بلا غور.. امتزجت باللانهاية.. لم تكن العيون الميتة ميتة.. بدت تحمل إنذارا رهيبا وتحذيرا مروعا.. بدا لى أنها تحسد الأحياء جميعا فما تزال أمامهم الفرصة لاستدراك ما فاتهم واستدبار أمرهم..فرص للتوبة بينما هى قد عبرت الفرصة الأخيرة..
بدا أنها رأت ما لا عين رأت.. وأنها تريد – لولا الموت – أن تطلق صيحة تحذير هائلة ..عرفنا الحقيقة.. تبا لكم عرفنا الحقيقة.. ذلك ما كنا عنه نحيد ..
كنت أحملق في الأحداق .. كانت واسعة جدا .. وكانت تشبه فوهة بئر بلا قرار يكاد يجذبنى بقوة جاذبية الأفلاك فأوشك أن أسقط فيه..لو أن بصرى أحد لرأيت ما رأت .. ماذا رأيت أيتها العيون الميتة عند العتبة الفاصلة بين الحياة والموت.. وهذا الانطفاء فى اللمعة هل يعنى كشف غطائك وأن بصرك الآن حديد.. لا يبدو فى الأجساد الميتة أى تغير فلماذا لا تنهض واقفة؟! ..
لماذا لا تنهض واقفة يا معشر الماديين والعلمانيين ولم ينقص من مادتها أى شئ.. كل ما تعترفون به لم ينقص منه شئ فماذا حدث إذن.. وهل غير المحسوس الذى ذهب أهم أم الملموس الذى بقى؟!..أجيبوا .. قولوا… لم تتطور أجسادكم من القرود لكنكم أضل ..اعترفوا بأن الروح من أمر ربى…
*** بعد ست ساعات كان الوضع قد استقر قليلا ..كان الصباح الجديد يشقشق وكان الشاهد الأبيض فوق جبل الرحمة يخطف القلب ويلوح فى الأفق تهب منه نسمات تهفو لها الروح ..أمكن إنقاذ عشرة من المصابين ومات ثلاثة.. كدت أتجه إلى مقعد استجابة لعظام تئن ومفاصل تتفكك وعضلات ترتجف .. لكننى تذكرت على الفور فاستدركت حائرا: لكنهم كانوا أربعة عشر..
انسدل غشاء من الغباء على عقلى فلم أجد تفسيرا لذلك اللّغز الغريب لبضع ثوان لكننى سرعان ما هتفت فى لوعة وارتياع: مريض الغرفة المهجورة.. لم أتذكره ولم يذكّرنى به أحد .. جريت إليه .. وكان راقدا بالحالة التى تركته عليها .. لكنه كان ميتا .. غام الأفق بل انفجر فانهرت تماما ورحت أجهش بالبكاء ..
*** لعلك تتساءل أيها القارئ لماذا أنزف هذه الذكريات وأستعيدها من تلافيف الزمان لأكتبها لك..
أقول لك ..ذلك أن شعورى إذ أكتب هذه المقالات شبيه بشعورى فى ذلك اليوم الذى مر منذ ما يقرب من أربعين عاما فى عرفات .. إننى أتناول فيما أكتب ما أظن أنه الأخطر.. ما أعتقد أنه لم يعد يحتمل الانتظار..
أما تتابع الأحداث فتجلدنى بسياط من نار.. هل أتكلم عن أعداء الخارج أم الداخل.. عن مؤامرات الداخل أم الخارج.. عن الطواغيت ووكلاء الغرب المتسلطين على كافة أرجاء عالمنا الإسلامى أم عن الأمة..
عن سايكس بيكو الثانية أم خيانة مؤتمن وتآمر وليّ..
أم أكتب عن تلك الحروب التي تحاول أمريكا المجرمة إشعالها بين دول العالم الإسلامي..
ثم يصرخ صوت يغطى على جميع ما سبقه : لا تنس مصر.. لا تجعلها كمصاب الغرفة المهجورة.. تحسب – ظلما – أن حالها أفضل من غيرها بينما هي تستنجد بك وتناديك فلا تغفل عنها كما غفلت عن مريض الغرفة المهجورة...
فمصر هى القادرة على لمّ الشتات الذى تمزق .. ورأب البناء الذي تصدع..فاكتب عنها..اكتب عنها ودافع عنها واحمها من "كمال أتاتورك" يبحثون عنه بين علمانييها وعملائها كي يقودها إلى الهلاك.. وابحث بين كل من يتقدمون لقيادتها..
ابحث معي أيها القارئ بين كل المرشحين للرئاسة أو لما هو دونها عن "كمال أتاتورك"..ابحث عنه بين الصحافيين والمذيعات.. ابحث عنه في الشوارع وعلى الفضائيات..ابحث معى أيها القارئ عن الشيطان.. فجهدى قاصر.. ابحث عنه حيث لا تتوقعه أبدا ..
لقد علمتنى الغرفة المهجورة أن الحريص – حين يؤتى – يؤتى من مأمن..وعلمنى "كمال أتاتورك" أن الحية الرقطاء -حين تلدغ- تخرج من مكمن..
وتعلمت أن الخطر حين يأتى لا يأتى مواجهة ولا فجأة.. بل يتسلل وئيدا وئيدا حتى تكون لحظة الإدراك نفسها هى لحظة الغرق.. وأن الشيطان حين يدعونا لايأتينا بقرونه بل يتقلد أبهى الحلل أو يتشح بوشاح رجل قانون أو يلبس عباءة ملك أو رئيس .. وأنه فقط فى اللحظات الأخيرة.. حين نكون قد فقدنا كل فرصة للفهم أو للمواجهة يسفر عن وجه الشيطان.. لتكون صورته تلك.. هى التى تتسع لها أحداقنا من الهول عند الموت!!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق