الثلاثاء، 15 سبتمبر 2020

11- آخر القِرى

"السيرة الذاتية"  طفولة قلب


11- آخر القِرى


الخميس 5 ذو الحجة 1426
 الموافق 05 يناير 2006


د. سلمان بن فهد العودة
الذاكرة الغضّة تمتصّ النص بسرعة، وتحتفظ به فترةً طويلةً، هكذا هو حين كان يلتهم الكثير من القصائد، وحين يستذكرها بعد سنوات يجدها وفيّة حفيّة... على حين ألفى نفسه بعدُ وقد تقدّم به العمر، وهو يجهد في صناعة الروابط والإعزاءات لما يروق له من الشعر، وعندما يستذكره يحس بأنه يسير في طريق حافل بالمنعطفات... والتوقف المفاجئ!
وعندما يتغنّى بأبيات القصيدة ... يشاركه الوجدان ... فيهتز فؤادُه، أو تطفر دمعة يداريها ويواريها حياءً وخجلاً، وكيف لا ينفعل مع قصيدة تحكي لوعة سجين يُساق إلى ساحة الإعدام؟!
أبتاهُ ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلاّد ينتظراني؟
أو يتألم وهو يتحفّظ رسالة إلى أمٍ مفجوعة بوليدها الذي يعاني القهر والتشريد:
مازال طيفُكِ في دنيايَ يتبعني....أنّى سَريتُ وقلبي يجحدُ النعما
حتى وقعت أسيرَ البغي فانصرفت....عني القلوبُ سوى قلبٍ يسيل دما
أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني....قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما
ويدخل السجن منسلاً فيدهشني....إذ يستبيحُ من الطغيانِ شرَّ حِمى
فإن رآني على خير بَكى فرحاً....وإن رآني على سُوء بكى ألما!

أو... وهو يسمع أنّات مريض، طريح الفراش، في رمقه الأخير، ينفث نجواه لأمه وزوجه وصبيته:
أفدي بنفسي أماً لا يفارقها....هم وتنهارُ حزناً حين أنهارُ
وزوجة منحتني كل ما ملكت....من صادق الود تحنان وإيثار
بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً....على أبيكم طريق الموت أقدارُ

وحيناً يناجيه همُّ الأمة وقضاياها، فيقف عند صياغة آسرة، وعاطفة مشبوبة لعمر أبي ريشة:
أمتي هلْ لكِ بين الأمم....منبرٌ للسيفِ أو للقلمِ؟
أتلقّاكِ وطرفي مطرقٌ....خجلاً من أمسك المنصرِم
فيمسك القلم ليعارضها مبكراً، بقصيدة لا يزال يعتبرها من أجود ما قال:
سَبَحَ الحقُ بتيارِ الدمِ....واشتوى باللهب المضطرمِ
عرف اللهَ مطيعٌ مخبتٌ....طاهر النفس رضيّ الشيمِ
ليله محرابه منطقه الدمـ....ـع مشكاة الظلام الأسحم
زمزم فينا ... ولكن أين من....يُقْنِعُ الدنيا بجدوى زمزم؟
وعلى الخط ذاته يقرأ لشاعر المقاومة؛ كما حلا له أن يدعوه:
أبطئي السير يا بقايا السحاب....صوّحت أرضنا من الإجدابِ
والظما في عيوننا هائل قاسٍ....وصوت الفضاء سأمان كابي
فيكتب على البحر ذاته، وبالروح ذاتها، مع اختلاف الرويّ قصيدة لا تزال محفوظة عنده بخطه:
إيه يا قلبُ يا مناطَ الهموم السود....يا مرتعَ الحكايا الثقالِ!
حسبُك اللهُ من أنار لك الدربَ....وأحيا منك الرسومَ البوالي!
حسبُك اللهُ إن عتا فيك ريحُ الشوقِ....أو حوّمت عليك الليالي
ويقرأ لشعراء محدثين شعر التفعيلة، الذي هو وزن بغير بحور الخليل، فيتذوق بعض شعر نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب، ويحفظ له، ويجيد محاكاة بعض الشعراء الإسلاميين؛ فيكتب بالطريقة ذاتها، وينشر في الصحف المدرسية ما لم يُكتب له الخلود؛ لأنه لا روح فيه!

إنه مدين -بغير تردّد- لتلك الفترة الذهبية التي أحسن استثمارها في الحفظ، وخاصة في القصائد المطولات، قديمها وحديثها.

وفي القراءة التي ربما نسي الكثير من تفصيلاتها، ولكن بقي أثرها الذهني واللغوي حاضراً حتى الساعة.
وبموازاة الحفظ والقراءة كان يحاول كسر حاجز الخجل والرهبة والتدرّب على الإلقاء، وقد تمكّن من إلقاء مجموعة من القصائد في الاحتفالات المدرسية، بعد أن كان أقصى ما يستطيعه أن يهمس بها قرب والدته التي تسمع وتردّد: بسم الله عليك!

في الثالثة المتوسطة ألقى ما يمكن تسميته "درساً" في مكتبة الشيخ: علي الضالع، على مجموعة من الطلاب، حول تفسير سورة يوسف، وقد ظل تسجيل ذلك المجلس محفوظاً عنده حتى عهد قريب.

لقد كان الدرس تلخيصاً جيداً لتفسير ابن كثير، ومطعّماً بنَفَحات من "ظلال القرآن".

أما جهاز التسجيل فيكاد يكون الوحيد الموجود في المدينة لدى شرائح المتدينين؛ إذ كانت التسجيلات آنذاك حِكراً على التسجيل الغنائي، وكان يقوم بإخفائه بعناية عن عين الوالد الذي يعتقد بحرمته، وحتى علماء الدين في البلد لم يكن أحد منهم يجرؤ على أن يقول بحِلّ هذا الجهاز أو المذياع، وقد تجرّأ أحد المتحمسين ليقول: إنه لا يجوز سماع القرآن بوساطته، وإنه ليس أقلّ شراً من سماع الغناء!!

ومع أن الأشرطة التي لديه هي قراءات للشيخ عبد الباسط، الذي كان شديد الإعجاب بنداوة صوته، وطول نفسه، وقوة تأثيره، وللحصري أيضاً.

ثم محاضرات للشيخ محمد الراوي، ثم الأستاذ محمد قطب، وكانت أول محاضرة له في السعودية، وبتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهم الله جميعاً.

إلا أن هذا كلّه لم يشفع لدى الوالد المهيب باقتناء جهاز التسجيل، خوفاً من أن تتدرج الأمور إلى غير هذا، وأيضاً .. فماذا عسى أن يقول الناس عنا؟

مرةً أخرى، وفي السنة الأولى الثانوية ناب عن الشيخ صالح الخزيم، في 

إلقاء محاضرة على طلاب دار التربية، واختار لها عنوان 
"الإنسان بين طغيان المادة وإفلاس الروح"!

وجمع للمحاضرة معلوماتٍ وحقائق وأرقاماً اقتبسها من 
بعض المجلات، وألقاها على صبية دون الإدراك.

وعلّق المقدم بأن المحاضرة في وادٍ، والطلبة في وادٍ آخر، 
فلا غرو أن استسلموا لنوم عميق... وغضب الشيخ صالح 
الخزيم، وقام مدافعاً بحماس، وكان التعويض أن يقف عدد 
من المدرسين يسلمون على المحاضر، ويردون له 
الاعتبار 
بقولهم: لا فُضّ فوك.. لا فُضّ فوك!

وتسجيل هذه المحاضرة أيضاً لا يزال محفوظاً لديه.

الكثير من الأحداث والأشياء الصغيرة يبدو تافهاً في وقته، 
لكن الزمن يمنحه أهمية إضافية، ولذا يبدو توثيق الأحداث 
وتدوينها فوراً من الحكمة والحزم.

ومن العلماء والمشاهير من تجده يحتفظ بتراث الطفولة؛ 
كتباً ودفاتر مدرسية، ومذكرات وذكريات، ولعباً وتسالي، 
أما صاحبنا فقد احتفظ في مخزن الذاكرة ببعض الزاد الذي 
تبين أنه كان محتاجاً إليه، وضيّع الكثير الكثير منه.

ولا يزال يتأسف على الدفتر الكبير الحافل بمئات القصائد 
الجميلة المختارة، والذي أعاره بعض أصدقائه، واختلفت 
فيه الأيدي، فلا يدرى إلا الله أين انتهى به المطاف؟!

ولذا أتقن جيداً معنى قول السلف: العلم ما حواه الصدر لا 
ما حواه القمطر.

وتعلم أيضاً أن يحتفظ بأشيائه الثمينة لنفسه، دون أن يعني 
ذلك اهتزاز الثقة بالآخرين.
وما بين (بسم الله عليك) التي كانت تردّدها أمه المشفقة، و(لا فُضّ 
فوك) التي ردّدها أساتذة دار التربية؛ أدرك صاحبنا أن الثناء 
والإطراء ليس دائماً دليلاً على التفوّق، بل قد يكون ثناء المحب 
الذي لا يرى إلا الحسن، أو تلطّف المجامل الذي لا يعدم أن يجد ما 
يثني عليه، فلا يأخذ مأخذ الجد كل ما يُقال عنه مدحاً أو ذماً!
بيد أن المرء الحصيف ذاته يدرك مواطن النجاح أو الإخفاق في 
سيرته ومسيرته، ومتى ما تذرّع بالصبر والدأب والإصرار فهو واصل 
لا محالة، ولنقل (إن شاء الله) تحقيقاً لا تعليقاً كما كان يقوله ابن 
تيمية -رحمه الله-.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق