الأربعاء، 23 سبتمبر 2020

15- مع الناس

 السيرة الذاتية » طفولة قلب
15- مع الناس
الثلاثاء 6 ربيع الأول 1427 
الموافق 04 إبريل 2006


د. سلمان بن فهد العودة


ثلاث سنوات قضاها في رحاب الشريعة كانت حافلة

بالأحداث، سيارة "الجمس" الحمراء التي يملكها وطئت

تراب الكثير من الشوارع والأزقة في بريدة وعنيزة

والمذنب والمدن المجاورة.

مجموعة من الشباب يحزمون أمتعتهم في رحلة إلى

شمال المملكة؛ العلا وخيبر وما حولها ويستعيرون

(الجمس) أسبوعاً، ولكن الأسبوع طال، فيا ترى هل وقع

حادث؟ أم دهم خطب، لقد اختفى هؤلاء واختفى معهم

(الجمس)..

وبعد فترة انتظار يخرجون من غيابة الجب، وكان

غيابهم مثيراً لمشاعره وأحاسيسه، وقد كتب فيهم يومها

قصيدة معبرة:

أحباءَ الهدى صحبَ القصيمِ....رعاكم خالقُ الكونِ العظيمِ

وأكرمَكم وأنزلَكم مقاماً....عليًّا فوق هاماتِ النجومِ

وثبّتكم وأنبتكم نباتاً....يقاومُ كلَّ إعصارٍ غشومِ

أحباءَ الهدى وعدٌ أكيدٌ....من الرحمنِ ذي العرشِ الكريمِ


لمن كان الصلاحُ له سبيلاً....على رغمِ المخاوفِ والهمومِ

وقال مصمماً والعزمُ ماضٍ....وتنفعل المقالةُ في الصميمِ

إلى ديّانِ يوم الدين نمضي....وعند اللهِ مجتمعُ الخصومِ!


لقد أخذ البيت الأخير من أبي العتاهية، وتصرف فيه من

أجل القافية، بعض النقاد يقولون: هذا من وقع الحافر

على الحافر، أما هو فيقول: اقتباس بغير التباس!

في أبيات ضاعت من الذاكرة...

لقد كان الفتية يحملون كتباً للقراءة ومصاحف، وكانت

سيماهم تنم عن مظهرية التسنن، ودخلوا المدينة على

حين غفلة من أهلها دخولاً صادف قيام فئة تنتمي إلى

"السلفيين، أهل الحديث، أهل المدينة" كما كانوا يسمون

أنفسهم، بتوزيع منشورات سابقة محظورة كانت تتعلق

بالمهدية والتكفير والحكم.... ، فدارت التهمة حول هذه

الشبيبة مما استدعى التحفظ عليهم لأيام معدودات.

استدعاه عميد الكلية الذي كان القلق يبدو عليه، وسأله

هل ثمة شيء، يتعلق به لدى الجهات الأمينة؟ فأجاب أن

لا، فقال العميد بهمس وحذر: إنهم يطلبون منك الذهاب

إليهم.

وذهب ليجد أن الأمر يتعلق بتسليم السيارة وكتابة ورقة

باستلامها فهان الخطب.

ذلك مثل للأسباب والدوافع التي حدت به إلى البقاء في

بلده بعد الثانوية؛ إذ كان يظن أنه يتمتع بدور قيادي في

صفوف الشباب والطلاب.

كانت أياماً جميلة مليئة بالحيوية والنشاط والتوقد

والطموح، رحلات يومية، ومبيت ليلي في أجواء مفعمة

بالإيمان، وأسفار طويلة غالباً ما تكون للعمرة في

رمضان، حيث قضاء وقت العشر الأواخر ضمن

مجموعات متآلفة، واستضافة بعض الشخصيات العلمية

أو الدعوية، يذكر مثلاً : اللقاء الذي جمعهم بالشيخ

القارئ علي بن عبد الرحمن الحذيفي، أو بالشيخ عبد الله

بن علي المطوع رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي

بالكويت؛ إذ التقى به لأول مرة، أو بالشيخ عبد الكريم

السعدون، والأنس الذي يجدونه بمتابعة تلاوات أئمة

الحرم، خاصة الشيخ عبد الله الخليفي -رحمه الله-

ونشيجه المؤثر في القراءة ودعاء الوتر... وكانت ليلة

الختمة مميزة يستعد فيها الشباب للخشوع والدموع.

الرحلات اليومية لا تنقطع، بيد أن المشكلة عدم وجود

مكان ملائم لها، كل ما في الأمر "أثلة" يستفيئون بظلها

حتى يبرد الجو؛ ليلعبوا الكرة، أو يتراموا بقشور

البطيخ، أو يجروا بعض المسابقات الثقافية، وأحياناً

يجدون من سبقهم إلى هذه الأثلة؛ حيث لا خيار إلا

صناعة ظل ببساط يشبك بالسيارات، وربما أُتيح لهم من

يقول: إن هذه منطقة محظورة وعليهم الرحيل، ولا مجال

للمساومة!

كانت الجسور على الطرقات مكاناً معقولاً حين يتعلق

الأمر بلقاء شبيبة من بلد آخر كالرس أو البكيرية، حتى

يكون اللقاء في منتصف الطريق.

ذاكرته تستجيب لرائحة (الحشوة) التي كان يفضل أن

يعدّها لهم بنفسه، وهي عبارة عن قطع البصل تُقلى في القدر على نار هادئة مع الزيت، ثم يُضاف إليها بعض الطماطم قبل أن توضع عليها قطع اللحم الذي غالباً ما يكون من الضأن أو الدجاج ..

شاب أعزب وهب كل وقته للقراءة والعلاقة مع الآخرين، وهو يظن أن أيامه على الأرض معدودة، فهو لن يتجاوز الأربعين، يجزم بهذا، كيف ولماذا؟ ليس واضحاً، لكنه يتجاهل هذا الهاجس، ويمضي قدماً في طريقه في دأب وإصرار.

لن يُفاجأ بأن بعض مَن علّق عليهم أمله قد انسحبوا وتركوه، أو صادفتهم ظروف عوّقت مسيرهم، أو غدوا بحاجة إلى دعم ومساندة كبيرة، بينما لا يُنتظر منهم الكثير ليقدموه!

يتصل بمجموعة جديدة من الأصدقاء، وكأنه يحاول لأول مرة، فينصهر معهم، ويمنحهم ثقته، دون أن يسمح لتجربة سابقة أن تكدّر صفو هذا الحلم الجميل.

في المستوى الجامعي أصبح أكثر ملاحظة لنفسه، وأقدر على إدراك عيوبها وسلبياتها، فهو مفرط الحساسية، قويّ العاطفة، يشعر بالحرج من الانتقاد، ويقرب من الارتباك، ويحاسب نفسه على بعض أخطائه بقسوة تقرب من التحطيم والتدمير.

لكن الإصرار على التواصل مع الآخرين، وقراءة الحالة النفسية للذات، والانهماك في تصحيحها جعلته يوشك على التخفّف من تلك المآخذ ليتفرغ لمعالجة سلبيات أخرى غيرها في نفسه التي تتلوّم وتتفلّت عليه:

أمتُّ في الله نفساً لا تطاوعني....في المكرمات لها في الشر إصرارُ

وبعتُ لله دنيا لا يسودُ بها....حقٌّ ولا قادها للفضل أبرارُ

لقد اعتاد النقد حتى كاد لا يفرق بينه وبين المديح والثناء، فهو لا يحمل الأمرين على محمل الجد التام، ويظن أن الحالة المزاجية للمتحدث أحياناً والموقف النفسي والاعتبارات الفكرية ذات أثر في هذا وذاك، ومن المهم أن يسير المرء في طريقه دون تعويق، فالذي قعد بالكثيرين عن المواصلة هو تبرُّمهم مما يُقال، ولو كانوا أقوى همة وأصبر لصنعوا من الحجارة التي يقذفون بها سلّماً إلى المجد والخلود! بدلاً من التعثر أو الوقوف.

لقد بات من المقرر لديه في تجربته أن الاختلاط المشروط بالناس وفق نظام معين ونفسية مؤهلة من أقوى الأسباب في الخلاص من العيوب واكتساب الخبرات والقدرات والعادات الحسنة، ولعل هذا جانب من فقه الحديث النبوي الصحيح " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم".

وسبحان من خلق الخلق وقسم بينهم الهبات، فقد أدرك بخلطته ومراقبته لمن حوله من الأشياخ أو الأفراد أن ثمة من يفتح له في باب العلم والمعرفة، أو في العبادة، أو في الإحسان، وقد يستشعر المرء العبودية الحقّة في جلسة مع محتاج أو مكلوم أو حزين ليخفف معاناته ويزيل عنه عناء الوحدة والغم.

إن الإنسان بطبعه مدني، وقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- أم إسماعيل بأنها تحب الأنس.

وليس هذا لمجرد المتعة والتسلية، وإن كانت المتعة جزءاً من المقصد، بل تبادل الرأي والنظر والحوار اللفظي والفعلي، وإجراء المقارنات بينك وبينه، وبين إنسان وآخر حتى يكبر الإنسان وينمو.

وقد كان الخليل بن أحمد حصيفاً حين صوّر علاقته بالآخرين، وحكمها بالصفح والإغضاء:

سَأُلزِمُ نَفسي الصَفحَ عَن كُلِّ مُذنِبٍ
....وَإِن كَثُرَت مِنهُ عَلَيَّ الجَرائِمُ وَما

الناسُ إِلّا واحِـــدٌ مِن ثَلاثَةٍ
....شَريفٌ وَمَشروفٌ وَمَثَلٌ مُقاوِمُ

فَأَمّا الَّذي فَوقي فَأَعرِفُ فَضلَهُ
....وَأُتبِعُ فيهِ الحَقَّ وَالحَقُّ لازِمُ

وَأَمّا الَّذي مِثلي فَإِن زَلَّ أَو هَفا
....تَفَضَّلتُ إِنَّ الفَضلَ بِالعِزِّ حاكِمُ

وَأَمّا الَّذي دوني فَإِن قالَ صُنتُ عَن
....إِجابَتَهِ عِرضي وَإِن لامَ لائِمُ

لقد عاش صاحبنا مع الفئات الثلاث، وجهد أن ينتفع بهم جميعاً، وليس أن يتعامل بالصفح فقط.

ولا تزال صحبة الناس ومعايشتهم سلوته واحتسابه، يحن إليها ويحرص عليها مادام يجد نفسه قادراً على الاحتمال، حتى إذا بلغ به الأمر إلى الحد الذي يجد التواصل فيه يأكل من نفسه وأعصابه، وقد يأتي بنتيجة نقيض ما يريد، تخفف من ذلك إلى حين استجماع قواه من جديد.

وقد كُتب له أن يتطلع إلى لقاء الأكابر في السن والعلم والتجربة، وكانت المرحلة الجامعية فترة ذهبية تعرّف فيها إلى شيوخ أفاضل، وأساتذة نبلاء، ومربين ناصحين، وكان له حفاوة بأمثال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الرحمن الدوسري، .. ومثلهم كثير.

وله مع كل منهم ذكريات ومواقف لا تنسى، بعضها مسجل، والآخر مكتوب، وجلها مما تحتفظ به الذاكرة رغم بعد العهد:

أعدْ ذكرَ نعمانٍ لنا إنّ ذكرَه....هو المسكُ ما كرّرته يتضوّعُ

والحديث عن مثل هؤلاء ضرب آخر له لمعانه وإشراقه، وإنما تطيب الحياة بلُقيا الأفاضل والمشاهير والتعرف عن كثب على نفسيّاتهم وسلوكهم ومراقبة تصرفاتهم ... فهي مدرسة أخرى أكثر أهمية من الكلية التي يوشك على التخرج فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق