الاثنين، 21 سبتمبر 2020

14- عتبات الشريعة

       السيرة الذاتية » طفولة قلب
14- عتبات الشريعة
السبت 4 صفر 1427 
الموافق 04 مارس 2006



د. سلمان بن فهد العودة
ست سنوات قضاها في المعهد العلمي بقسميه, وكانت من أجمل أيامه, ولعله يحب أن يفصح أن أيامه كلها جميلة؛ تعلّم خلالها العديد من أساليب الدعوة والاتصال, وتربّى على برامج تعبدية وروحية, وتزوّد بقراءات مناسبة لمثله, وكرّس بعض المواهب, كالإلقاء والشعر وطرائق التفكير.

وبعض ما أنجزه في تلك الفترة المتقدمة؛ مما يظن أنه يعجز الآن عن مجاراته, مثل قصيدة "سبح الحق .."!

لم يكن راغباً في الانتقال إلى "الرياض" لدراسة الشريعة أو اللغة, لأسباب: منها؛ ارتباطه بكثير من الشباب , فقد كان منهمكاً معهم في بناء دعوي وعلمي, وكان يظن أنهم لا يتحمّلون فقده, وفيما بعدُ علم أن كثيراً من ساكني القبور كانوا يظنون أن الحياة لا تسير بدونهم على ما يرام!, وآخرون يظهرون التواضع بينما ينظرون في أعطافهم, ويعتقدون أنهم رسل العناية السماوية!

ومنها قربه من والدته التي أمضّها الألم, وأضنتها الشكوى, وزاد من معاناتها العلاج الشعبي الذي كانت تتعاطاه بغير تدقيق, حتى مسحوق الحديد!

ووفدت عليها "الجارة الجديدة" التي شاركتها زوجها, وأحدثت عاصفة عائلية ما لبثت أن هدأت, وتحولت تلك الوافدة إلى صديقة عزيزة للأسرة كلها, وصارت الأم تعاملها كإحدى بناتها.

بنى والده غرفة علوية تسمّى "الروشن" وهو يمنّيهم أن تكون "مكتبة" خاصة لهم, وتحولت بعدُ -بقدرة قادر- إلى غرفة خاصة للعروس الجديدة!

لقد كان يذهب بأمّه إلى المستشفى, وخصوصاً الطبيبة التي كانت تسميها "الأُمانية", لأنها من ألمانيا, وتصفها بأنها "شاطرة" فتبثّها شكواها بلغة محلية, تعرف بعضاً, وتعجز عن بعض!

قرر أن يبقى في بريدة, وقدم دراسة الانتساب إلى كلية اللغة العربية, استجابة لنصائح من حوله, وكان يذهب لأداء الاختبار, ويسكن مع "العزوبية" في أحد بيوت الرياض.

وحفظ خلال تلك السنة الجديد من النصوص الشعرية والنثرية المقررة, ومنها قصائد الشعر الجاهلي, ولا يزال يذكر تغنيه بقصيدة مهلهل:

أَهاجَ قَذاةَ عَينِيَ الادِّكارُ هُدُوءاً فَالدُموعُ لَها اِنحِدارُ

وَبَاتَ اللَيلُ مُشتَمِلاً عَلَينا كَأَنَّ اللَيلَ لَيسَ لَهُ نَهارُ

وَبِتُّ أُراقِبُ الجَوزاءَ حَتّى تَقارَبَ مِن أَوائِلِها اِنحِدارُ


وكانت فرصته لدراسة العروض والوزن والبحر ...، ولكنه لم ينتفع به كثيراً, فلديه ملكة فطرية في معرفة الوزن, وإدراك الخلل في البيت, وربما ظن أن ما وراء ذلك نوع من التكلف الزائد فتركه.

وأعدّ لتلك السنة بحثاً علمياً, عن الإمام عبد القاهر الجرجاني وكتابه في الإعجاز, واجتاز المرحلة بنجاح وتفوق, أغراه بمواصلة الانتساب.

في السنة الثانية بدأ جاداً, واتصل ببعض الطلبة ليتابع مستجدات الدرس, وأعدّ بحثاً مبكراً عن "كان وأخواتها".

ولا يدري ما الذي ربطه بـ "كان"!

هل هي مجرد مصادفة؟!


أم لأنه "كان" يقرأ في كتاب المطالعة للثالثة الابتدائية: "كان سلمان أجيراً عند زرّاع, فوفر من أجرته مالاً, فاشترى أرضاً, وزرعها, وسقاها, وحالفه النجاح بسبب جِدّه واجتهاده وإخلاصه في العمل".

وكان زملاؤه يتندرون عليه بهذا العامل في المزرعة!

أم لأنه يذكر ذلك العامل السوداني, الذي رآه يحمل كتبه؛ فضحك وسأله عن كان وأخواتها, إن كان تزوج منهن أحد, أم لا زلن عازبات!

وحدث خلال هذا العام أن افتتحت جامعة الإمام فرعاً لها في القصيم؛ بيد أنه يخلو من قسم اللغة العربية, فهل ثمت مجال للتحويل؟ لِيجرب!

وكتب خطاباً لمدير الجامعة, وزوّده بعدد من الشهادات والتزكيات؛ ليحصل على الموافقة على تحويله من اللغة إلى الشريعة, وبذات المستوى, بشرط تشكيل لجنة للاختبار!

وكم كان مسروراً بهذا الإنجاز؛ ليدرس منتظماً كما هو ميله وهواه, ولئلا تفوت عليه سنة دراسية.

وكان يدرك أن "اللجنة" غير ذات معنى؛ لأن وكيل الكلية كان متحمساً لإتمام العملية؛ إنه الشيخ صالح بن ناصر الخزيم, الذي تعرف عليه في المركز الصيفي, ونظر إليه بإكبار وثقة, وبادله المحبة, لقد كان هو رئيس اللجنة, وقد سأله أسئلة عديدة, كان أحدها عن طهارة جلد الميتة بالدباغ؟

وأسرع صاحبنا بالجواب؛ فقد كانت هذه المسألة إحدى محفوظاته القديمة, في السنة الأولى المتوسطة, في مقرر الفقه من "زاد المستقنع".

وانتقل إلى كلية الشريعة منتظماً بعد مرور ما يزيد على الشهر, والتحق بصحبه الأوائل باغتباط, واضطر لإعادة البحث من جديد؛ فكتب بحثاً فقهياً عن "صلاة الجماعة وأحكامها" أشرف عليه فضيلة الدكتور عبد الكريم بكار, الذي كان أستاذاً في الكلية, ومدرساً للغة والثقافة.

ولم يكن الدكتور بكار مشرفاً فحسب؛ بل كان مسانداً وداعماً, حتى إنه زوده بكتب ومراجع, وسهل مهمته في إعداد البحث, وراجعه بشكل دقيق, وكانت فرصة للتعرف على الدكتور عن كثب, معرفة دامت إلى اليوم, حتى حينما انتقل الدكتور إلى أبها جمعت بينهما أجواء مزدلفة على غير ميعاد في ليلة جميلة طيبة الذكرى.

هذه المرحلة كانت فرصة لتأصيل المعرفة الشرعية واللغوية, حيث العديد من أكابر الشيوخ والأساتذة, ومنهم كان الشيخ محمد بن صالح العثيمين, الذي كان يتابع محاضراته في الفصول, والدكتور محمد متولي, والدكتور علي القوني, والدكتور أحمد الخراط, إضافة إلى الأساتذة الزائرين, ومنهم الشيخ مناع القطان, والأستاذ أحمد محمد جمال, والدكتور عبدالله الحامد وغيرهم كثير.

وخلال السنة, وبعض أخرى التي قضاها منتسباً؛ كان يعمل على بيع الكتب في "مكتبة النهضة" المخصصة للكتب الإسلامية, وخاصة الحديث منها, وليس يدري كيف استطاع إقناع والده بأن يبيع في مكتبة إلى جوار الدكان, بينما الوالد يريد أن يكون قريباً منه؛ لكنها مرحلة الشباب الباكر التي تؤثر الاستقلال, مع طبيعة العمل في الكتب المناسبة لميله العلمي والدعوي.

كان في المكتبة يقرأ وقت الفراغ, ويتعرف على الكتب الجديدة, ويتصل بأشخاص كثيرين من الشباب والشيوخ, والمتعلمين وغيرهم.

زاره مرة وافد من دولة مجاورة, وسأله عن ديوان امرئ القيس؟

فأفاد بأنه غير موجود !

فواصل الزبون سؤاله: امرؤ القيس الذي يقول:

اقتربت الساعة وانشق القمر؟

فضحك صاحبنا مندهشاً قبل أن يقول الآخر:

لغزال صاد قلبي ونفر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق