قراءة في كتاب
النباهة.. والاستحمار
– لا، مستحيل! ألا تعلم أن صاحبه شيعي زنديق كافر و..و..و (القائمة الطويلة المعتادة)؟
– أرأيت؟ هذه هي الطائفية المرتبطة بالاستحمار الذي تحدث عنه الكاتب..
النباهة والاستحمار كتاب قيم للمفكر الإسلامي الراحل علي شريعتي، وهو وإن كان مفكرا أشهر من نار على علم، إلا أننا نستطيع القول بأن كتبه لم تجد طريقها إلى القارئ العربي إلا في وقت متأخر جدا، لذلك مازال انتشارها محدودا بعض الشيء بين جمهور القراء هنا، لأسباب كثيرة جدا.
النباهة والاستحمار صرخة مدوية في وجه الاستحمار بإسم الدين بشكل خاص، بما يتقاطع مع نقد لاذع لدعاة التغريب، واستنساخ نُظم التعليم الغربية |
النباهة والاستحمار عبارة عن تجميع لخطب مسجلة صوتيا، ألقاها الدكتور علي شريعتي في قاعة الإرشاد بطهران، ثم جرى نقلها إلى الورق دون زيادة أو نقصان، فصدر الكتاب لأول مرة عام 1984، 7 سنوات بعد اغتيال شريعتي في بريطانيا، وحمل الكتاب عنوانا أصليا باللغة الفارسية هو " خودآگاهی و استحمار"، ويتراوح عدد صفحاته بين ال 100 و 150 صفحة حسب اختلاف الطبعات، ما يمكنك من مطالعته في جلسة واحدة أو جلستين على الأكثر.
النباهة والاستحمار صرخة مدوية في وجه الاستحمار بإسم الدين بشكل خاص، بما يتقاطع مع نقد لاذع أيضا لدعاة التغريب، واستنساخ نُظم التعليم الغربية، وتبني الحريات المزيفة التي يُروّج لها الغرب. فقد أجاد شريعتي تحديد الداء في المجتمع وتوصيفه ومسبباته، وهو المفكر المستقل الذي يرفض التبعية الفكرية والاستسلام لأفكار موروثة دون مساءلتها.
تتلخص فكرة الكتاب في كون الإنسان صاحب قيمة كبيرة في هذه الأرض، إنسان له مسؤولية كبيرة في أن يعرف نفسه وطاقاته وإمكانياته جيدًا (وهذا ما سماه شريعتي بالنباهة الإنسانية)، وأن يكون واعيًا بدوره الإنسانيّ في مجتمعه (أو النباهة الاجتماعية حسب وصفه). مشيرا إلى أنه وعلى مرّ العصور أوجدت جماعات هدفها الرئيسي إلهاء الإنسان عن هاتين النباهتين وعن الحقوق والمطالبات الفورية الأساسية التي تتحقق بها إنسانيته، لتتمكن من تسخيره لمصلحتها، وذلك ما يسميه المفكر الإيراني بـالاستحمار ، أي تحويل الإنسان إلى حمار يسهل ركوبه.
الاستحمار حسب شريعتي نوعان، أولهما الاستحمار القديم أو الدين المزيف، والاستحمار الحديث أو العلم المزيف.
الاستحمار في نظر شريعتي يمكن أن يأخذ وجهين مختلفين، قد يكون هذا الوجه مباشرا بتحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، وسوقها إلى الضلال والانحراف، وقد يكون غير مباشر بإلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية، لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية، وذلك باختلاق معارك وحروب وهمية إلهائية (كمثال الصراعات الطائفية، تحرير المرأة بين سيطرة الموروث الثقافي والاتهام الباطل للدين بأنه السبب في وضعيتها المزرية، وخطورة استقطاب نموذج التحرير على الطريقة الغربية، إلخ).
أما عن القيم التي يغرسها المستحمرون (بكسر الميم) في عقول المستحمرين (بفتح الميم)، فيقول شريعتي أنها قد تبدو أحيانا جميلة رغم أن الواقع مجانب لذلك تماما، فالدعوة مثلا إلى التخصص في علم أو مجال معين دون الإلمام بالثقافة الجمعية الشاملة يؤدي في نظره إلى فقدان النباهة الاجتماعية، كما أن الدعوات إلى استقطاب القيم الإستهلاكية والدعوات المستمرة إلى الحرية الفردية وتحرر المرأة، هي في رأيه وإن بدت دعوات نبيلة أو هادفة إلا أنّ دورها الحقيقي هو الإلهاء عن المسائل الأهم.
وحتى أساهم في توضيح فكرة الكتاب بشكل عام، أشارككم هنا بعض الإقتباسات منه:
"يقولون لك انظر دائمًا لمن هو دونك! لو كان هذا صحيحًا، لما كانت هناك حاجة للتقدم، ولو اقتصر الأمر على أن ننظر نحن إلى أفغانستان، فنقنع، وينظر الأفغانيون إلى اليمن فيقنعون، وينظر اليمنيون إلى موزمبيق فيقنعون، لما كانت هناك حاجة للتحرك أيضًا، بل لأي شيء نتحرك؟"
عيب الكتاب الوحيد أنه يقدم كل مكامن الخلل المرتبطة باستحمار الشعوب المستضعفة، لكنه لا يقدم حلولا لمواجهته |
"ماذا عمل بنا الغرب نحن المسلمين، نحن الشرقيين ؟ لقد احتقر ديننا، وأدبنا، فكرنا، ماضينا، تاريخنا وأصالتنا، لقد استصغر كل شيء لنا، إلى حد أخذنا معه نهزأ بأنفسنا.. أما الغربيون فقد فضلوا أنفسهم وأعزوها ورفعوها، ورحنا نحن نقلدهم في الأزياء والأطوار والحركات والكلام والمناسبات، وبلغ بنا الأمر أن المثقفين عندنا صاروا يفخرون بأنهم نسوا لغتهم الأصلية… ماهذه السخافة؟"
"عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن. فكيف لو كانت دعوته إلى عمل آخر أقل شأنًا ؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ماهو إلا استحمار، وإن كان عملًا مقدسًا أو غير مقدس…"
عيب الكتاب الوحيد أنه يقدم كل مكامن الخلل المرتبطة باستحمار الشعوب المستضعفة، لكنه لا يقدم حلولا لمواجهته، ربما لطبيعته كمجموعة من الخطب التعميمية المجمعة التي لا تسمح بالتوسع كما هو الشأن بالنسبة لكتاب تقليدي، لكن الإطلاع على مؤلفات أخرى للمفكر الراحل ستساعدنا على فهم أفكاره أكثر، وأيضا نظرته وحلوله المقترحة لمواجهة آفة أفظع من الإستعمار في نظره: الاستحمار!
أما عن شريعتي نفسه، فيعتبره الكثيرون أبرز ملهم للثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه رضا بهلوي عام 1979، وهو مفكر إيراني حاصل على الدكتوراة في تاريخ الإسلام وعلم الإجتماع، كان معارضا بارزا لحكم الشاه، واعتقل عدة مرات بسبب مواقفه السياسية، وبعد السماح له بمغادرة البلاد والسفر إلى بريطانيا عام 1977، عثر عليه مقتولا في شقته هناك، بعد ثلاث أسابيع فقط من وصوله!
يعد شريعتي من بين مفكرين قلائل تجردوا من ضيق التمذهب، فكان أحد أبرز منتقدي ما سماه "التشيع الصفوي" و "التسنن الأموي"، داعيا إلى التقريب بين المذاهب بما يخدم وحدة الصف الإسلامي في وجه الأخطار المحدقة به وتجاوز ونبذ الخلافات التي لا تستفيد منها سوى بعض الأطراف المعينة التي تغذي روح الإنقسام (كعادة المفكرين السابقين لعصورهم بأفكارهم المختلفة)، ولا دليل على بعد نظره سوى الحرائق التي تغذي بنيرانها الآن منطقة الشرق الأوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق