الأحد، 20 سبتمبر 2020

لا تَعْجَل ؛ فكل آتٍ قريب

إذا أحبطكَ واقعُكَ فتذكر تَقلُّبَاتِه ، وانسج من عُسرِ الحاضرِ يُسرَ الآتي .. ولا تَعْجَل ؛ فكل آتٍ قريب !!

د. علي فريد 
أيحبطكَ تَحَزُّبُ لصوصِ المحميات العربية وأسيادِهم على ثورات العرب وجهاد المسلمين؟!
اجتمعت دول أوروبا على الثورة الفرنسية ومخرجاتها، وتحزبت سبعة جيوش أوروبية ضد الثورة، وأعادت الأسرة الملكية الحاكمة، واحتلت باريس، وهزمت نابليون، ثم تسربت أفكار الثورة الفرنسية إلى تلك الدول ذاتها، وكانت عاملاً مهماً من عوامل تثوير شعوبها وإسقاط أنظمتها.. ومَنْ يدرس تاريخ القرن التاسع عشر جيداً سيكتشف أنه قرنُ صراعٍ وتدافع بين أفكار الثورة الفرنسية ومخرجاتها، وبين الثورات المضادة لها..
ليس هناك ثورات فاشلة؛ هناك ثوارٌ استسلموا!!
*****
أتحبطك فوضى الثورات وعدم امتلاكها مشروعاً متكاملاً للنهضة أو تصوراً واضحاً للحكم؟!
ومَن قال لك أن ثورةً في التاريخ امتلكت- قبل اشتعالها- مشروعاً كاملاً للنهضة، أو تصوراً واضحاً للتعامل مع واقع ما بعد الثورة؟! إنهم يكذبون عليك ليشغلوك عن الأصل بالفرع، وعن المتن بالهامش..
لم تكن مفاهيم الثورة والوحدة والاستقلال والدستور موجودة أصلاً إبان الثورة الأمريكية.. لم يرفع المستوطنون شعار:" الشعب يريد إسقاط النظام"، بل رفعوا شعار:" لا ضريبة دون تمثيل"، فانحصر اعتراضهم حول ضرورة تمثيلهم في البرلمان البريطاني لأنهم كانوا يعتبرون بريطانيا هي الوطن الأم.. لم يكن هناك أكثر من هذا عشية ما سُمِّي بـ(حفلة الشاي) في بوسطن.. وشيئاً فشيئاً بدأت أفكار الثورة والاستقلال والوحدة تنبت في نفوسهم وعقولهم، ونسجت الأقدار نسجها الغريب بظهور (توماس بين)- الكاتب البريطاني المتأمرك المغمور-؛ فكتب كُتيباً صغيراً أشبه بالمذكرة؛ عنوانه (الفطرة السليمة)؛ فكان هو (كـفأر السد) الذي خلخل سدود بريطانيا الاستعمارية في أمريكا، وكان كُتيِّبُه الصغير كعود ثقاب أشعل في النفوس آمال الوحدة والاستقلال والثورة، حتى أمر جورج واشنطن بقراءته على الجنود والمستوطنين في كل مكان.. وحين بدؤوا حرب الاستقلال كان وضعهم- مقارنة ببريطانيا- مُزرياً جداً بلا دولةٍ أو حكومةٍ أو جيشٍ حقيقي أو نظامٍ ماليٍ أو سياسيٍ أو إداريين أكفاء.. وازداد الوضع سوءاً حين فرضت بريطانيا الحصارَ على سواحلهم فحرمتهم من وسيلة التواصل والسفر والتجارة الوحيدة بين مستوطناتهم؛ ليجدوا أنفسهم مضطرين لاستحداثِ طرقٍ برية بطيئٍة وقليلةِ الجدوى!!
في الثورة الفرنسية.. بدأت التهيئة الفكرية لها بكتابات (ميكافيلي) الإيطالي و(هوبز) و(لوك) الإنجليزيين؛ وانتقلت تلك الأفكار إلى فرنسا عن طريق (جان جاك روسو) و(مونتسكيو) اللذين قَعَّدَا لنظريتي (فصل السلطات)، و(العقد الاجتماعي).. وبجماليات أدب (فولتير)- الذي حَوَّلَ فلسفةَ هؤلاء وتنظيراتهم إلى خُطب وأشعار-؛ شُحِنَتْ أرواحُ الفرنسيين بالرفض والتمرد.. وبنفي زعماء الثورة السويسرية (كاستيلا، وريباز، وإيتان دمون) إلى فرنسا؛ تفاعلت خبرات الثورة السويسرية الموؤدة مع بوادر الثورة الفرنسية الوليدة.. ولم يُترجم كلُّ هذا إلى ثورة إلا حين بلغت المعاناة حدها الأقصى بعد موت لويس الرابع عشر، ثم لويس الخامس عشر، ثم اندلعت الثورة في عهد لويس السادس عشر؛ فعمت الفوضى أرجاءَ البلاد، وتَغَيَّرَ الدستور أربع مرات في خمس سنوات، وفشل الثوار فشلاً ذريعاً في التعامل مع مشكلات ما بعد الثورة، وضربت المجاعةُ الفرنسيين حتى جُمعت المواد الغذائية قسراً من فلاحي فرنسا كلها فلم تكف لإطعام باريس وحدها، وانقلب الفرنسيون على الثورة والثوار حتى صاروا يبحثون عن مُخَلِّصٍ ولو كان ديكتاتوراً، وتعددت لجانُ الثوار وجمعياتُهم وفصائلُهم وانقلاباتُ بعضهم على بعض؛ حتى دخلوا عصرَ إرهابٍ تساوت فيه- تحت المقصلة- رقابُ الثوار مع رقابِ من ثاروا عليهم؛ فأكلت المقصلةُ (دانتون)، و(سانت جاست)، و(روبسبير)؛ كما أكلت لويس السادس عشر وماري أنطوانيت!!
في الثورة الروسية.. لم يكن الألماني (كارل ماركس) يسعى لانتصار البروليتاريا؛ بل كان يراها حتميةً تاريخية ستقع دون سعي أو عمل.. حتى جاء لينين وتروتسكي فالتقطا الفكرة وطوراها وعملا عليها، ثم يئسا وهاجرا، ثم اندلعت الثورة حين توفرت ظروفها؛ فعادا ورَكِبَاهَا، ثم التقطَها منهما الأعنف والأقسى والأخبث ستالين؛ ليستقر المشروعُ الشيوعي السوفيتي على نحوٍ لم يكتبه ماركس أو يطوره لينين أو يتمناه تروتسكي!!
الثوراتُ لا تحملُ مشاريعَ متكاملة.. هي رؤى فكرية، وأهدافٌ كلية، ومبادئ عامة؛ تتفاعل عبر زمنٍ- يطول أو يقصر- مع دواعي الثورة في المجتمع، حتى تتهيأ لها شرارة مناسبةٌ لانفجارها؛ فتنفجر محدثةً انقلاباً في المفاهيم والتصورات والأوضاع، يعقبه تدافع دموي بين الجديد والقديم، مع ارتدادات متتابعة تنضج بها الرؤى والمبادئ والغايات؛ لتتنزل على الواقع في صورة مشاريع متخصصة تتغير تفاصيلها بتغير الواقع وتقلباته.
*****
إذا أحبطكَ واقعُكَ فتذكر تَقلبَاتِه، وانسج من عُسرِ الحاضرِ يُسرَ الآتي.. ولا تَعْجَل؛ فكل آتٍ قريب!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق