أحمد بن صالح الظرافي
ظل الغزو الأوروبي الصليبي، لإفريقيا متصلاً، من عام 1415، وهو عام الاحتلال البرتغالي لسبتة المغربية، وحتى مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكنه لم يكن يشمل سوى المناطق الشمالية، وبعض المناطق الغربية من القارة. ويعتبر الربع الأخير من هذا القرن، هو فترة تكالب القوى الأوروبية؛ لاستباحة المناطق الداخلية من القارة، بالقوة العسكرية، للهيمنة عليها، وتنصير أهلها، ولتطويق انتشار الإسلام بين الجماعات الوثنية في الغابات الاستوائية، وغيرها.
وقد بدأ ذلك التكالب بعد أن كانت تجارة الرقيق، على مدى أكثر من 4 قرون، قد أدت إلى تفريغ أجزاء واسعة من القارة من سكانها، وفي الوقت نفسه، كانت قد أدت الغرض منها، بالنسبة لمعظم الدول الرأسمالية الأوروبية، وصارت قيداً على زيادة التطور الرأسمالي، ومن ثَمَّ، ظهور الحاجة إلى تنظيم الاستغلال المحلي للأراضي والعمل، وَفْقاً للاحتياجات الأوروبية الجديدة بعد الثورة الصناعية التي كانت تتطلب الحصول على المواد الخام، وعمالة رخيصة، وسوق لتصريف المنتجات الصناعية.
وكان إنشاء (ليوبولد الثاني) ملك بلجيكا (1865- 1909) للمنظمة الإفريقية العالمية، ذات الأهداف الإنسانية المعلنة، عام 1877، وتطلعه لاستباحة الكونغو، ذات المساحة الشاسعة والموارد الهائلة في قلب القارة السمراء، قد أدى إلى إثارة حسد إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا والبرتغال، وتحرك هذه القوى الثلاث، من ثم، للدخول في سباق محموم مع بلجيكا، لاستباحة الكونغو، وهنا رأت الإمبراطورية الألمانية الصاعدة، أن لها الحق في نصيب من الغنيمة، فأسرعت باحتلال أجزاء واسعة من غرب إفريقية، في أبريل 1884، وإعلان حمايتها على أجزاء أخرى من القارة، وعلى رأسها الكاميرون، الأمر الذي أثار فزع ومخاوف إنجلترا، نتيجة لمزاحمة ألمانيا القوية، لها بعد فرنسا. وهكذا بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، موجة جديدة من الاستخراب الأوروبي، تجتاح القارة الإفريقية، التي صارت نهباً مستباحاً للقوى الأوروبية الاستعمارية، التي كانت تعتبرها «أرض بلا صاحب»
ولكي لا يتحول التنافس بين القوى الأوروبية على أفريقيا إلى حروب طاحنة، كما حدث من قبل في الأمريكيتين وفي شبه القارة الهندية، دعا الزعيم الألماني بسمارك (1863- 1890) في حزيران عام 1884، لعقد مؤتمرٍ للدول الأوروبية، في برلين، لأجل وضع خريطة تقسيم القارة الإفريقية على الطاولة، وتحديد من الذي يستبيح هذا الجزء أو ذاك، من القارة، وبحيث يكون للإمبراطورية الألمانية الصاعدة، نصيب من هذه الكعكة، وقد انعقد المؤتمر فعلاً في 15 -11- 1884، وشاركت فيه 13 دولة أوروبية هي: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، كما حضرته الولايات المتحدة، بصفة مراقب، وحضرته أيضاً الدولة العثمانية، كـ (ديكور) لإضفاء الطابع الدولي عليه.
كان أشبه باجتماع زعماء العصابات (المافيا) لتوزيع الغنيمة من المواد المسروقة، التي اشتركوا في سرقتها معاً، وكل منهم يريد أن يكون نصيبه هو الأكبر من تلك الغنيمة، وأن لا تشمله القرعة، بل يترك له المجال، لكي يأخذ النوع الذي يشاء منها، مع الفارق الجوهري، وهو أن هؤلاء اللصوص (المتحضرين)، يتفاوضون علناً، وجهاراً نهاراً، حول استباحة قارة بأكملها، تزيد مساحتها عن مساحة قارة أوروبا كلِّها 10 مرات تقريباً، مع تغييب كامل لمن عليها من بشر، وكأن هؤلاء البشر ليسوا موجودين على ظهرها، بل كأنهم مجرد دواب تسير على الأرض، وليس لهم أحلام، ولا طموحات، ولا تاريخ، ولا ثقافات. والحقيقة أن هؤلاء البشر، كانوا جزءاً من الغنيمة، ولم تكتمل القسمة إلا بهم، لأنهم سيكونوا عمال سخرة، يستخدمهم الرجال البيض (سادتهم المتحضرون)، لاستنزاف موارد بلادهم، لزيادة أرباح حفنة من هؤلاء الرأسماليين البيض، ولكي يعملوا على رفاهيتهم، بطرق استغلالية بشعة بل متوحشة، كما سيكون لهم الحق في التصرف فيهم بيعاً، وقتلاً، واستعباداً، كما يشاؤون.
ونتيجة لذلك، ونظراً لشراهة هؤلاء اللصوص (المتحضرين) وشهياتهم المفتوحة على الآخر للسلب والنهب، مع تعارض مصالح بلدانهم، فقد استمرت مداولات المؤتمر وقتاً طويلاً، وحدثت فيه حالات استقطاب، وتكتلات، ومفاوضات ثنائية وثلاثية ورباعية، حتى اختتم المؤتمر أعماله في 26 -2- 1885، بعد حوالي 100 يوم، من بَدء انعقاده، وما كان المؤتمر ليستغرق هذه الفترة الطويلة، لو لم تكن الغنيمة ضخمة جداً. ولذا يعتبر هذا المؤتمر أطول وأغرب مؤتمر في التاريخ.
وقد جاء البيان الختامي للمؤتمر في 38 مادة، تضمنت الآتي:
1. إقرار كل دولة أوروبية على ما تحت يدها من مستخربات أفريقية، كانت قد استباحتها ووضعت يدها عليها، قبل انعقاد ذلك المؤتمر.
2. أقر المؤتمر، أن أي دولة أوروبية لها الأولوية في استباحة أي منطقة إفريقية كان لشركاتها التجارية، أو لبعثات جمعياتها الجغرافية وكنائسها التبشيرية، نفوذ عليها من قبل.
3. اعترف المؤتمر بحق ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، في استباحة الكونغو، والتي كانت مساحتها تزيد عن مساحة بلجيكا الصغيرة عشرات المرات، وكان هذا الاعتراف بدعم أمريكي.
4. أعطى المؤتمر الدول الأوروبية الحق في استباحة أي جزء من القارة، لم يكن قد استبيح من قَبْل، شريطة إعلام بقية الدول الأوروبية الموقِّعة على ميثاق المؤتمر، بذلك.
5. أقر المؤتمر حرية التجارة والملاحة في حوضَي نهري الكونغو والنيجر للشركات الأوروبية والأمريكية.
6. أكد المؤتمر على الاستمرار في مكافحة تجارة الرقيق، إلى جانب العديد من المواد الأخرى، التي قصد منها إضفاء الطابع الإنساني المتحضر على الاحتلال.
7. اعترف المؤتمر بالحبشة كقوة محلية إفريقية، لكونها مملكة نصرانية، وأعطاها الحق في استباحة أراضي الإمارات الإسلامية التي كانت تتركز على الساحل الإفريقي، وقتذاك.
وبناء على ذلك، فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، باستباحة باقي مناطق القارة الإفريقية والتوغل في أعماقها الداخلية، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا الفاشية لليبيا عام 1911م، واحتلال فرنسا للمغرب الأقصى، عام 1912م، وهكذا صارت سبع دول أوروبية وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734000 ميلا مربعا)، تستبيح 93% من أفريقيا (مساحتها 11300000 ميلا مربعا)، أي ما يعادل 15 ضعفاً لمساحة تلك الدول الأوروبية مجتمعة، ولم يتبقَ في كل أفريقيا دولة مستقلة، باستثناء الحبشة (النصرانية).
وقد استخدمت القوى الأوروبية الاستخرابية، العديد من الذرائع لتسويغ استباحتها للأقاليم الإفريقية، ونهب ثرواتها، وقهر واستعباد وإبادة الكثير من شعوبها، مثل مكافحة تجارة الرقيق، وتعمير القارة الإفريقية، ونشر الحضارة فيها، وحفظ الأجناس البدائية في أنحائها، ورعاية مصالحهم، والعمل على تنصيرهم وترقيتهم مادياً ومعنوياً، وكلها مسوغات زائفة؛ فلم يعرف الناس لهذا الاحتلال سوى الخراب والدمار.
ولم تتـم عمليـة اسـتباحة قـارة أفريقيا بمعـزل عـن صراع الأوروبيين مع الإسلام، فقد كان الدين حاضرا بقوة في هذا الصراع، رغم رفع الأنظمة الأوروبية لشعارات العلمانية. وفي هذا الإطار قام المستخربون الأوروبيون بعد مؤتمر برلين الثاني، بفصل شرقي أفريقيا عن الجزيرة العربية، وفصل غرب أفريقيا عن المغرب العربي، وفصل جنوب السودان عن شماله، وفتح أبواب أفريقيا على مصاريعها لجحافل المبشرين الكاثوليك والبروتستانت، لغرض تنصير الأفارقة بمن فيهم الأفارقة المسلمين. وتكاملت سياستهم في هذا المجال، وكل ذلك، حتى يحدُّوا من نفوذ اللغة العربية لغة القرآن الكريم، في هذه البلدان، وحتى ينزعوا الإسلام عن الهوية الإفريقية، ويحولوها إلى كيانات كسيحة، مقطوعة عن جذورها.
وتظهر هذه القضية بجلاء، عندما نعلم أن معظم القادة العسكريين الذين قادوا الجيوش الأوروبية لاستباحة إفريقيا، كانوا من النصارى المتطرفين الغلاة، من أمثال الجنرال (غوردون باشا) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في جنوب السودان قبل أن يذبحه رجال الثورة المهدية في الخرطوم، والنقيب (ليوقارد)، الذي قام بدور هام في تصفية الوجود العربي في نيجيريا، والرائد (مكدونالد) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في أوغندا.
وقد أزالت الدول الاستخرابية الأوروبية لإفريقيا دولاً وإمارات إسلامية بأسرها من غرب القارة، وشرقها، أبرزها دولة الخلافة الإسلامية في سكوتو (شمال نيجيريا)، التي كانت ثمرة للحركة الإصلاحية السلفية، التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1754 – 1817)، والتي قضى عليها البريطانيون عام 1903، بمعاونة فرنسا وألمانيا، فرغم ما كان بين هذه الدول من تنافس إلا أنها كانت تتناسى عداواتها وتتحد ضد عدوها المشترك (الإسلام). وكان المسلمون الأفارقة، هم من رفع راية المقاومة للتصدي للاستخراب الأوروبي لإفريقيا، ولكن المسلمين – سواء كانوا دولاً أو جماعات – هزموا في النهاية، نظراً لعدم قدرتهم، على التوحد لمواجهة هذا التحدي المصيري؛ خاصة مع تطبيق المستخربين لسياسة فرق تسد، وضرب الشعوب الإفريقية بعضها ببعض. وبعد إزالة نفوذ المسلمين السياسي، شرعت تلك القوى الاستخرابية الأوروبية، في الحرب المنظمة على اللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة الدعوة الإسلامية، واللغة التي يتحدث بها المسلمون الأفارقة، ولا تزال هذه الحرب مستمرة حتى اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق