أزمنةُ مَعَابر انتقالية
د.علي فريد - الصفحة الرسمية
ما يعيشه المسلمون الآن لن يدوم، وهو- مع ذلك- طبيعي جداً؛ حدثَ لغيرنا كما يحدثُ لنا، وسينتهي عندنا كما انتهى عندهم، فلا يُيْئِسَنَّكَ إرجافُ المُرجِفين وتثبيطُ المُثَبِّطِين؛ فليسَ أكثرَ من النائحاتِ في المآتم!!
" ذلكَ الطافي سيطفو غَيرُهُ
ويَظلُّ الغائرُ المنشودُ أروعْ"
هي (أزمنةُ مَعَابر انتقالية).. وأزمنة المعابر موحشةٌ وَحشة الخروج من حالٍ اعتدناه فاعتبرناه أصلاً وما هو بأصل، ووحشة الدخول في حالٍ جهلناه فاعتبرناه طارئاً وما هو بطارئ، وليس أخوف للإنسان من قادمٍ غامضٍ يلوحُ فتستشرفه النفوس ثم لا تدري أعارضٌ ممطرٌ هو، أم ريحٌ فيها عذاب أليم!!طبائعُ الأزمنةِ الموحشةِ واحدةٌ في كُلِّ عَصرٍ ومِصْر:
الإحباطُ والكآبة.. الخوف والقلق.. الأنانية والفَردانية.. اختلالُ المعنى وضبابية الغايات.. الشعور بالضآلة والضياع.. سقوط الثوابت أو اهتزازها.. الاستهانة بالمقدس أو إنكاره.. الانشغال بسفاسف الأمور.. عُلُوُّ السِّفلةِ وتَغَلُّبُ الأوباش.. إسقاط الرموز وتسيُّد الرويبضات.. التأرجح بين الأفكار ونقيضها.. التَّفلُّتُ من العملِ بطلبِ أعلى العمل.. غَلَبَةُ الشبهات والشهوات.. التجمد في أعراض ما بعد الصدمة.. الارتهان النفسي لمتوالية الهزائم..
وليس أسوأ- في طبائع هذه الأزمنة- من خروج السَّقَطِ والأنصافِ ومُحْدَثِي فَكِّ الخَطِّ وتَهَجِّي الحرف على الناس لقصفهم بالشبهات والشهوات صباحَ مساء، وضربهم بالتفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، وإشغالهم بمعارك جانبية تافهة لا يُرجى من ورائها علم ولا يُبنى على تفاصيلها عمل؛ تؤزهم في ذلك نفسياتٌ مريضة مهزومة مأزومة؛ لا هَمَّ لها سوى استخراج أسوأ ما طمره الماضي؛ لتخلطه بأبشع ما قاءه الحاضر، ثم تتهارش مع الناسِ حول السوء والبشاعة كما تتهارش الكلابُ على العظام القذرة!!
المعتزلة والأشاعرة.. السلفية والصوفية.. تجديد الخطاب الديني.. تنقية التراث.. البخاري ومسلم.. قراءة ثانية للإسلام.. الحرية قبل الشريعة.. تمكين المرأة.. تعدد الزوجات.. لا دولة في الإسلام.. الشيوخ سبب الإلحاد.. الجهاد والجهاديون سبب الخراب.. الإسلاميون لا يملكون مشروعاً.. تهنئة النصارى بأعيادهم.. المواريث.. الحرية الجنسية.. قبول الآخر
(ذاك الذي يجب أن تقبله وقدمه فوق رأسك)!!
تجميدكَ في أعراض ما بعد الصدمة هو هدفهم الأساس؛ فالصدمة مثيرٌ لا بد له من استجابة، وليس للصدمة سوى استجابات ثلاث: المقاومة أو الهرب، أو التجمد.. فإن قاومت أو هربت؛ فقد اتَّسَقَتْ استجابتُك مع طبيعة الحياة والأحياء، وصارت الصدمة لكَ بوابة تغييرٍ لا قبر موت؛ (ولا يُدهشنك أن يكون الهربُ مقاومة؛ فهو- لحفظ النفس، وتجديد العزم، وتلافي الأخطاء، واستحداث الأدوات- أصل كل مقاومة).. وإن تجمدت؛ فسيدكونك بالصدمات تباعاً حتى يكون أهون ما تلقيته هو الصدمة الأولى؛ فلا تستفيق من صدمةٍ إلا ليوقعوك في أخرى، ولا تخرج من دَرَكَةٍ إلا ليسقطوك في التي تليها؛ "ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها"، حتى يوصلوك إلى (الصدمة المعقدة) التي تُحيل طاقة الحياة الخارجة منك إلى طاقة موتٍ محصورةٍ فيك؛ فتصبح طاقتُكَ كالماء الآسن؛ حِيْلَ بينه وبين الجريان؛ فصار مستنقع أوبئة تتخلق فيه ومنه حشراتٌ تتغذى به وعليه؛ فكأنك- بتجمدك في أعراض ما بعد الصدمة- تخلق في نفسك من نفسك ما يلتهم نفسك.. ولا يلتهم النفوسَ شيءٌ مثلُ الخوف، والقلق، والاكتئاب، والخيالات المقتحمة، والذكريات المعاودة، والشعور بالخزي والعار.. وكلها أعراض ما بعد الصدمة المراد تجميدك فيها!!
فإنْ قِسْتَ على حال الفرد حالَ الأمة؛ فستجد حالَ الأمة قريباً من حالِ الفرد.. صدماتٌ متوالية في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهُويَّة؛ يوقعوننا بها في أمراض الأزمنة الموحشة؛ لتتآكل الأمة من الداخل، أو تخلق من نفسها في نفسها ما يلتهم نفسها، أو تنقسم بين تيارين أحمقين لا يشتد بأسهما إلا بينهما: تيارٍ متجمدٍ في أعراض ما بعد الصدمةِ مغلوبٍ على أمره، صار- لطول استسلامه للاضطهاد- مازوخياً يستلذ بالعذاب، ويركن للسلمية المناقضة للفطرة، ولطبائع الحياة والأحياء، وللسيرة النبوية ذاتها.. أو تيارٍ متحركٍ دائماً وأبداً دون وعي أو هدف أو غاية؛ سيطرت عليه- لطول شعوره بالاضطهاد- رغبةُ الانتقام المجردةُ من الوعي أو الغاية أو الهدف؛ فصار كالفيل الغاضب في متجر خزف!!
وليس السؤال الآن السلمية أم السلاح؛ فهو سؤال سفسطائي أنتجته الصدمة للانشغال به عن الحركة في الواقع- ولا حركة في الواقع دون جهادٍ لسانيٍّ أو سنانيّ- فلا محل للسؤال إلا عند من أقعدته الصدمة عن العمل؛ فاستسلم لها ثم فَلْسَفَ استسلامه بالسلمية!!
تسييلُ طاقةِ الأمة المتجمدة وانعتاقُ جسدها وروحها من الصدمة هو السؤال الأساس، ولا جواب لهذا السؤال إلا بمعرفة من نحن وماذا نريد، ثم معرفة طبيعة المرحلة التي نعيشها؛ إذ معرفةُ طبيعة المرحلة أصلٌ في معرفة كيفية الخروج منها..
فإذا عرفت- يقيناً- أنك مسلمٌ أولاً وآخراً؛ ولستَ مصرياً أو سورياً أو عراقياً، أو غير ذلك من هُويَّات الجاهلية التي فرقت الأمة وأذهبت ريحها وجعلت بأسها بينها شديداً، ثم ظَهَرَتْ هذه المعرفة في حالك واقعاً لا في لسانك قولاً فقط؛ فواليتَ عليها وعاديت؛ كنتَ قميناً أن تعرفَ مرادَ الله منك فتعمل به وله وفيه حسب طبيعة المرحلة التي أوجدك الله فيها؛ غير منتظرٍ لثمرة أو مُحْبَطٍ بعقبة أو مُنتَكِسٍ بفتنة.. ولا شيء يضيع سدى؛ فإن نجحت فبها ونعمت، وإن فشلتَ فقد بذرت بذراً يوشك أن يستنبته غيرُك، وألقيتَ أُسُسَاً يوشك أن يبني عليها سواك..
وما أكثر ما أصلحَ اللهُ بفردٍ أمة وبطائفةٍ طوائف!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق