رحيل أمير عربي وحدوي وجدار صلب ضد التطبيع
كان عروبيا في زمن صهيوني، بوصلته كانت باتجاه جميع القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين.
كان أحد صمامات الأمان التي ضبطت محاولات الخروج عن المسار والبوصلة العربية. ووقف سدا منيعا ضد التطبيع مع العدو الصهيوني، كما حاول الحفاظ على وحدة العرب، وسعى إلى الإصلاح فيما بينهم.
عرف بلقب عميد الدبلوماسية العربية لأربعة عقود، قام خلالها بأدوار دبلوماسية هامة لحل مشاكل المنطقة.
الشيخ صباح الأحمد الصباح، المولود عام 1929 في مدينة الجهراء شمال غرب الكويت العاصمة، كان تحت رعاية والده المباشرة، فقام بإيفاده إلى بعض الدول للدراسة، واكتساب الخبرات والمهارات السياسية، وليتعرف كذلك على طبيعة الأنظمة والعمل والإدارة في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية.
كانت بدايته مع الشأن العام والسياسي عام 1954، بعد تعيينه عضوا في "اللجنة التنفيذية العليا"، وهي بمكانة مجلس الوزراء في يومنا هذا، وقد عهد إليه بمهمة تنظيم دوائر الدولة، ووضع خطط عملها ومتابعة التخطيط فيها، وبعد انتهاء هذه اللجنة من عملها عين الشيخ صباح عام 1955 رئيسا لـ"دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل" (وزارة فيما بعد).
عين عام 1956 عضوا في الهيئة التنظيمية للمجلس الأعلى، وهو المجلس الذي كان يساعد أمير الكويت في إدارة شؤون الحكم في البلاد، وأضيفت عام 1957 إلى مهامه رئاسة "دائرة المطبوعات والنشر".
من خلال موقعه هذا ترك بصمات ثقافية كبيرة، فقد كان صاحب المبادرة في إصدار مجلة "العربي" عام ١٩٥٨ ودعا لإتمام هذه المهمة المفكر المصري الدكتور أحمد زكي ليكون رئيسا لتحريرها، وقد وصفها صباح الأحمد عند صدور عددها الأول بأنها "هدية الكويت للعرب". وأصدرت في عهده الجريدة الرسمية للكويت تحت اسم "الكويت اليوم" لتسجيل كافة الوقائع الرسمية.
عين في منصب وزير الإرشاد والإنباء (الإعلام) في الحكومة الأولى التي شكلت بعد استقلال الكويت.
وبصفته عضوا في الحكومة، أصبح عضوا في "المجلس التأسيسي" الذي باشر بعملية وضع الدستور، ونتيجة لعضويته في المجلس عين في ثاني حكومة تشكل في الكويت بمنصب وزير الخارجية. ومن خلال منصبه كان أول من رفع علم الكويت فوق مبنى هيئة الأمم المتحدة بعد قبولها انضمام الكويت عام 1963.
اقرأ أيضا: هل تتغير سياسة الكويت الخارجية مع رحيل أميرها؟
صبغت مبادراته ووساطته مسيرته الدبلوماسية من البدايات فقد كان وسيطا ومفاوضا ورجل "حل" للكثير من النزاعات العربية والدولية، من بينها الوساطة بين مصر والسعودية لحل الصراع العسكري بسبب اليمن، ولحل قضية المطالبة الإيرانية بالبحرين، وبذل جهودا واضحة في التوسط لحل النزاع الحدودي بين العراق وإيران حول السيادة على شط العرب، وشارك في جهود تسوية أزمة أيلول/ سبتمبر بين الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسعى إلى حل النزاع بين باكستان وإقليم البنغال، وبين شطري اليمن، وقام بوساطة بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن الديمقراطية، وقاد عملية وساطة بين ليبيا والسعودية، وقاد وساطة بين بغداد وطهران لوقف الحرب العراقية الإيرانية.
وخلال الحرب الأهلية في لبنان، كانت الكويت الطرف الأكثر قبولا لدى كافة الأطراف المتنازعة في الساحة اللبنانية، واختارته جامعة الدول العربية ليترأس "اللجنة السداسية" التي شكلتها لتحقيق التوافق بين مختلف الأطراف المتنازعة في لبنان لوقف الحرب الأهلية اللبنانية.
وعقب توقيع الرئيس المصري محمد أنور السادات لـ"اتفاقية كامب ديفيد"، التزمت الكويت بقرار جامعة الدول العربية بقطع العلاقات العربية مع النظام المصري، واكتفت بتطبيق القرار، دون أن تمارس ضغوطا اقتصادية على مصر، ودون أن تنجر لحرب إعلامية وسياسية مع النظام المصري، إذ امتازت سياسة الكويت الخارجية التي تولاها صباح الأحمد آنذاك بهامش كبير من المناورة والمرونة السياسية.
وبعد دخول القوات العراقية إلى الكويت علم 1990 أدى صباح الأحمد حينذاك دورا كبيرا في حشد التأييد الدبلوماسي العربي والدولي لمصلحة دعم ومساندة الشرعية الكويتية، ونجحت جهوده الدبلوماسية في كسب الكويت مساندة عالمية وأممية من خلال توافق الإرادة الدولية مع قيادة قوات التحالف الدولي لطرد القوات العراقية وتحرير الكويت.
وكان وقتها يشغل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، بالإضافة إلى وزارة الخارجية حتى عام 1991، ثم ابتعد عن المنصب نحو عام، قبل أن يعود إلى موقعه السابق، ويستمر فيه حتى عام 2003 عندما عين رئيسا للوزراء.
طيلة نحو 40 عاما، أسس صباح الأحمد السياسة الخارجية للكويت على أسس ومبادئ وثوابت رئيسية في مقدمتها: التوازن الإستراتيجي، والحياد الإيجابي، والدفاع عن الثوابت القومية، والابتعاد عن الأحلاف العسكرية.
وعقب وفاة الأمير جابر الأحمد الصباح، وبعد تنازل سعد العبد الله الصباح، ولي العهد السابق، بسبب المرض تولى صباح الأحمد منصب أمير الكويت عام 2006.
ونظرا لجهوده الكبيرة في العمل الإنساني فقد كرّمته منظمة الأمم المتحدة عام 2014 بلقب "قائد العمل الإنساني"، كما جرت تسمية الكويت "مركزا للعمل الإنساني" تقديرا من المنظمة الدولية لجهودها وأميرها في خدمة الإنسانية.
كما قاد الأمير الراحل وساطة لحل الأزمة الخليجية التي بدأت عام 2017، حيث قطعت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر، وفرضت عليها حصارا. وقام بجولات مكوكية رغم مرضه لتقريب بوجهات النظر ولرأب الصدع في الجدار الخليجي.
وقد عانى في السنوات الأخيرة من المرض، وقضى فترة طويلة عام 2019 في العلاج في الولايات المتحدة، وكان الأمير صباح يعاني من متاعب في القلب، حيث سبق أن خضع لعملية جراحية في القلب، كما خضع لعملية جراحية أخرى في الولايات المتحدة.
وترجل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الحاكم الخامس لدولة الكويت منذ استقلالها عام 1961 عن عمر ناهز 91 عاما، تاركا فراغا في الشارع الكويتي والخليجي والعربي لمناقبه وآثاره وغيرته على وحدة الصف العربي.
اقرأ أيضا: الكويت تسمّي نواف الأحمد الصباح أميرا للبلاد.. تعرّف إليه
وعملا بأحكام الدستور، فقد نادى مجلس الوزراء الكويتي بولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح أميرا للبلاد.
ولد أمير الكويت الجديد عام 1937 في مدينة الكويت، وهو الابن السادس لحاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح، الذي حكم البلاد في الفترة ما بين عامي 1921 و1950.
تولى الشيخ نواف العديد من المناصب المهمة، لتبدأ رحلته في العمل السياسي عام 1962، عندما تولى منصب محافظ حولي، حيث تمكن من تحويل حولي من قرية إلى مدينة حضارية وسكنية تعج بالنشاط التجاري والاقتصادي، وتولى مسؤولية محافظة حولي لمدة 16 عاما.
وتولى عام 1978، حقيبة وزارة الداخلية ثم تولى منصب وزير الدفاع عام 1988، وفي عام 1991 كلف بحقيبة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كما تولى منصب نائب رئيس الحرس الوطني.
وعلى مدار 9 سنوات بذل الشيخ نواف جهودا كبيرة للوصول إلى أرقى المستويات والمعدلات في المؤسسات الأمنية المماثلة في أكثر دول العالم تطورا، وعمل على تطوير المنظومة العسكرية للحرس، وجعله الذراع اليمنى للقوات المسلحة.
وفي عام 2003، عاد إلى حقيبة وزارة الداخلية، حيث يعتبر الأب الروحي والمؤسس الحقيقي لوزارة الداخلية بشكلها الحديث وإدارتها المختلفة، وفي عام 2003، صدر مرسوم أميري بتعيين الشيخ نواف نائبا أول لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية.
وفي عام 2006، أصدر أمير الكويت الراحل أمرا أميريا بتزكية الشيخ نواف وليا للعهد، وجرت مبايعته من قبل مجلس الأمة وليا للعهد.
ولا تزال برقيات التعزية والثناء على مناقب الأمير الراحل تطغى على المشهد في حالة أصبحت نادرة عربيا بعد حالة الانقسام والاستقطاب العربي، التي أمضى الأمير الراحل أكثر من نصف عمره وهو يحاول ردم الهوة، وإصلاح الصدع والتشققات في الجدار العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق