الأحد، 20 سبتمبر 2020

13- الطريق إلى مكة (2/2)

 "السيرة الذاتية"  طفولة قلب 

13- الطريق إلى مكة (2/2)


الاثنين 14 محرم 1427 
الموافق 13 فبراير 2006


د. سلمان بن فهد العودة

الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم البليهي -رحمه الله- كان مدرساً بمعهد الرسّ العلمي، ثم انتقل إلى رئاسة الأوقاف بمكة، ومن الطريف أنهم زاروه ذات يوم في رمضان، ورأوا صبيانه الصغار ومنهم (إبراهيم) الذي كان يُكنّى به، فكان الصبي يقول – بحسب التربية- إنه يحب ربه حباً شديداً، وقد تعوّد من معاني الحب الطفولي أن يضمّ محبوبه، ويقبله، وهو يتمثل هذا المعنى الحسي في شأن الحب الإلهي.

طال الشوق إلى الشيخ عبد العزيز بعد مغادرته القصيم فكتب صاحبنا طفل المتوسطة له رسالة حميمة، ولم يدر حين كتبها أنه هو نفسه الذي سيقوم بفضها وقراءتها بعد عشر سنين، فقد ذهبت الرسالة إلى مكة، ووُضِعت في درج الشيخ، ثم أصاب الشيخ مرض عضال أقعده عن العمل، وعاد أدراجه إلى حيث بدأ إلى القصيم، إلى بريدة، إلى مزارع أهله في حي (التغيرة)، حيث قضى أيامه الأخيرة صابراً لا تفارقه الابتسامة رغم آلامه الشديدة.

نبش زملاؤه في العمل أدراجه، ووجدوا الرسالة فأعادوا إرسالها إلى صاحبها الذي أصبح مدرساً في معهد بريدة العلمي.

لقد كتبها وهو طالب، وضمنها النكتة المتعلقة بإبراهيم والحب الإلهي، وأبى الله إلا أن يكون هو الذي يفتحها بعد أن صار أستاذاًَ في المعهد ذاته!

كان الشيخ رجلاً دمث الأخلاق، سريع الابتسامة، جاداً في العمل، كريماً سمحاً، وعن طريقه اتصل صاحبنا بالشريط الإسلامي، فقد استمع إلى مشاهير المقارئ المصرية كالشيخ محمد رفعت صاحب الصوت العميق المسيطر، حين يقرأ مقاطع متفرقة من سورة يونس، أو النحل أو الإسراء أو طه أو الحديد أو الرحمن أو قصار السور من تسجيلات قديمة، ولكن متميزة.

والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد محمود الطبلاوي، والشيخ محمد سعيد نور صاحب النبرة الخاشعة المؤثرة.

وكان على صلة بمصر حيث درس الماجستير، ثم الدكتوراه في الأدب العربي في جامعة الأزهر، وكانت أطروحته عن التيار الإسلامي في الشعر السعودي.

مالي إذا ما زارني طيفُه أمسحُ من أجفـاني الدامعـاتْ

غاب ولن يرجعَ يا ليتني شاركْتُه بعضَ أماني الحيــاةْ

أشعرُ بالوحشة من بعده جسمي وحيدٌ وشؤوني شتاتْ

وعندما تفجؤني لمحـةٌ لطيْفِـه أهــمّ بالالتفـاتْ..!

ولقد كُتب لصاحبنا أن يزور أهله من بعده في الرياض، ثم أن يصلي على إبراهيم الابن الأكبر الذي قضى في حادث سيارة.

هكذا هي منح الحياة، سعيد من يلتمس سبباً ليقدم الشكر للآخرين الذين آزروه في مرحلة من حياته، وساعدوه على تحقيق ذاته.

ومن بين الفتية الذين عرفهم بوساطة الشيخ، وصحبهم في غير ما رحلة أو مبيت أو مخيم، الفتى (راشد) الذي كان رفيق الحج، وكان مشحوناً بمشاعر فيّاضة، ولا يزال يذكر المشهد المتعلق به، يوم عرفة، والحجيج في الموقف تتعالى الأصوات من كل جانب، والجو يزداد سخونة وإيماناً، والقلوب تجتمع على مناجاة ربها واستغفاره، وهي تقدم بين يديه اعترافاً بالذنب، وطلباً للمغفرة، ووعداً بالتصحيح، والذاكرة تحشد المزيد من الذكريات المؤلمة، والأخطاء العصيّة على النسيان، وتختلط أصوات الداعين بأصوات القرّاء، والشيخ عبد العزيز يتلو سورة الزمر (قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيها الجاهلون).[ الزمر:64] ويستحضر صورة المشهد العالمي، والصراع الفكري المحتدم، بين الإسلاميين والشيوعيين واليساريين.. فيردّد الآية ويغير نهاياتها.. أيها البعثيّون.. أيها الشيوعيّون.. أيها الملحدون.. وتظل طلاقة النص القرآني "الجاهلون" أوسع مدى، وأعمق دلالة.

ويأخذ الجو الروحاني المشحون بزمام "راشد"؛ فينهمك في نوبة شديدة من البكاء، ويفقد السيطرة على نفسه، والجماعة حوله يهدّئونه ويذكّرونه برحمة الله حتى سكن.

من زملاء الحج والسفر والدعوة الشيخ صالح الشيبان، والشيخ عبد الله العريني رحمهما الله!

وطالما تساءل: كلما نطق بدعاء الرحمة على أصفياء صحبهم في مطلع شبابه؛ هل تراه وصل إلى مرحلة أصبح فيها يتلفت حوله، فيرى جمعاً من أقرانه قد غادروا.. أم ليس بعد؟! ثم يسلّي نفسه بأن هؤلاء ماتوا في حوادث عارضة، وهم في أحلى أيام شبابهم!

أترانا استثناءً من هذه الحوادث إذاً؟

توالت بعدُ، رحلات الحج، التي صار لا يتركها قط، إلا في سنوات خمس حيل بينه وبينها.

وعلى الرغم من التيسيرات كانت المشقة قرينة الحج، فالحصول على مكان بمنى يُعدّ إحدى المعضلات التي لا تحصل دون عراك وجدل اضطراري، وتوفير الخدمات الضرورية التي لا غنى عنها أمر لا يتيسر لكل أحد، والذهاب إلى عرفة، والانصراف منها كان مغامرة يستغرق الحديث عن تفصيلاتها كثيراً من الوقت، ولن تدرك حجم النجاح الذي تحقق لك حتى تسمع إلى معاناة الآخرين وأزماتهم.

أصبح ينصح بعدم الإكثار من الحج مراعاة لمقاصد الشريعة في التخفيف عن المكلفين، وحفظ حياة الناس، وتحقيق معنى العبادة وروحها واستشعار الإخاء الجماعي.. إلا لمن يتحقق بذهابه مصلحة عامة لفئة من الناس.

على مدى ثلاثين حجة، صحب المئات من الأصدقاء والتقى الآلاف.. هو يتذكرهم جيداً..

منهم من لا يزال على علاقة دائمة ومباشرة معه، وهو يألف هذا النوع، ويحب الإبقاء على الصداقات؛ فهي رمز من رموز الإنسانية والوفاء، وليس يحسن بالمرء أن يبدّل صداقاته كما يبدّل ملابسه.

ومنهم في الطرف الآخر من لم يبق منه إلا صورة ضبابية، وذكرى وطيف ينتاب الخاطر كلما حانت مناسبة.

وهذا وذاك قليل.

وجلّهم لا يزال يحتفظ بنوع تواصل وحنين وارتباط وجداني، بيد أن اللقاء يخضع للمصادفة.. يرى أحدهم فتحشد الذاكرة ملفات مطوّلة عن أخباره وذكرياته وشخصيته وخصائصه، ويتحّرك القلب، ويتقافز فرحاً، يواريه ويداريه، ويسلم ويصافح ويقول: الناس أحرار فيما يختارون لأنفسهم..

الذكرياتُ على الزحـامِ تـدافَعَتْ....فكأنّهن لديه سربُ حرائرْ

فلأيِّها تـومــي بـراحةِ تائبٍ....ولأيِّها ترنو بمقلةِ غافرْ

غامرْت في طرق الحياة، ولم تزلْ....طرقُ الحياةِ حوافزاً لمُغامرْ

جميل أن تتعلم من دروس الحياة ألاّ تحتفظ إلا بالذكريات الجميلة مع الآخرين، وأن تتعلم العفوية، والسذاجة إن شئت، في التعامل مع الوجوه الجديدة، دون أن تكون عرضة للاستغفال أو الخداع الذي يوقعك في مهاوي الطريق.

الطريق إلى الحج.. والحج إلى الطريق.. معنيان متصلان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

جزى الله الطريقَ إليك خيراً....وإن ترك المطايا كالمزاد



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق