دعــوة إلى البـكاء
أحمد بن راشد بن سعيّد
الخميس, 03 يناير 2008
يموج العالم العربي بأحداث جسام تستدعي البكاء، أو ربما
تثير الضحك، تماشيًا مع المثل العربي:
"شر البلية ما يضحك"، وتماهيًا مع قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات *** ولكنه ضحكٌ كالبكا
العرب حقًّا في أوضاع بائسة تسرّ العدو وتغيظ الصديق،
فلا بأس إذن أن يبكوا كثيرًا ويضحكوا قليلاً، أو يصوموا
عن الضحك والابتسامة حتى تزول المحنة وتنقشع الغمة.
نوادٍ للضحك
هناك تجربتان في عالم اليوم، يجدر بالعرب أن يقفوا
عندهما مليًّا، ويختاروا منهما ما يلائم أوضاعهم ويخفف
معاناتهم؛ الأولى: تجربة نوادي الضحك التي ابتكر فكرتها
الطبيب الهندي مادان كاتاريا والذي أسس أول ناد للضحك
في بلاده في عام 1995، ثم انتشرت سلسلة من هذه
النوادي في طول الهند وعرضها، حيث تجاوزت ثلاثة
آلاف ناد (في نيودلهي العاصمة 57 ناديًا).
كرس هذا الطبيب حياته لرسالة الضحك، فاستقال من
كرس هذا الطبيب حياته لرسالة الضحك، فاستقال من
عمله في مستشفى مومباي؛ ليقود ما سماها "الحركة
العالمية من أجل صحة العالم وسعادته وسلامه"، واختار
يوم الأحد من الأسبوع الأول من شهر أيار (مايو) يومًا
سنويًّا للضحك.
أثمرت جهود الرجل فتناسلت نوادي الضحك حتى
تجاوزت 2000 ناد في 40 دولة. جاب كاتاريا مدن العالم
مبشرًا برسالته وداعيًا إلى افتتاح نواد يمارس فيها من شاء
الضحك بكل أصواته وفنونه، مثل ضحكة الأسد أو ضحكة
خض اللبن أو القهقهة.
وعندما حطت رحاله في مدينة فرانكفورت الألمانية في
مطلع أيار (مايو) 2006 ليشارك نادي الضحك
بفرانكفورت احتفالية الضحك العالمية قال كاتاريا:
"الضحك لغة عالمية يمكن من خلالها توحيد الجنس
البشري كافة. إن السبب الذي يجعلنا لا نضحك بما يكفي
يكمن في أننا لا ندرك المعنى الحقيقي للضحك. ليس
الضحك تسلية أو ترفيهًا أو لهوًا فحسب، إنه تعبير عن
السعادة الداخلية التي تنبعث عندما ندرك فقط المعنى
الأعمق للحياة".
وأردف داعية الضحك الأول قائلاً: "في هذا اليوم السعيد
وأردف داعية الضحك الأول قائلاً: "في هذا اليوم السعيد
أناشدكم جميعًا فتح أذرعكم والضحك بلا سبب حتى ولو
لدقيقة واحدة؛ لتبعثوا هزات السلام والحب والحرية في
أرجاء الكون كافة، من أجل نشر الإخاء على المستوى
الدولي، ولتعزيز الصداقة والسلام في العالم".
لا تستغرب إذن لو سافرت إلى مدينة من مدن "الضحك"
ووجدت قومًا يقهقهون على قارعة الطريق، أو في
المنتزهات، أو وهم يقودون سياراتهم، أو ينتظرون عند
إشارات المرور. لقد تطور الأمر من "وصفة طبية" إلى
سلوك اجتماعي.
لكن هناك في الجانب الآخر تجربة مختلفة، هي مقاهي
مقاهي البكاء
لكن هناك في الجانب الآخر تجربة مختلفة، هي مقاهي
البكاء. ظهرت الفكرة في الصين هذه المرة، حيث افتتح
في شرق البلاد منتصف عام 2007 مقهى يتيح لرواده
التعبير عن حزنهم أو إحباطهم. المقهى الذي تبلغ تكلفة
ارتياده ستة دولارات أمريكية في الساعة، يقدم للزبائن
مناديل لمسح الدموع، وزيت النعناع لتخفيف الألم، كما
يقدم البصل والفلفل الأحمر؛ لكي تسيل دموع من لا دموع
له. ولا بد بالطبع من الموسيقى الحزينة التي يوفرها
المقهى؛ ليضفي جوًّا من الحزن والكآبة على رواد المقهى
فينخرطوا في نشيج ونحيب لا ينتهيان. بعض الصينيين
وجدوا في مثل هذا المكان ملاذًا يفرون إليه من مشكلاتهم
النفسية أو انتكاساتهم العاطفية.
هذا المجال. الضحك مثلاً يضفي جوًّا من المودة
والانسجام بين الضاحكين، ويفيد في تمرين الرئتين والغدد
ويحرك عضلات الوجه، كما ينشط بعض الهرمونات
والمواد الكيمائية في الجسم مثل الأندورفين القاتل للألم،
ويحسن عملية التنفس، الأمر الذي يزيد نسبة الأوكسجين في الدم.
أما البكاء فيخفف إلى حد كبير درجة الشحن العاطفي، وقد
يؤدي حبس الدموع، وعدم تلبية الرغبة في البكاء إلى
تعرض الإنسان لأمراض عديدة كالربو وأمراض القلب.
ويشترك البكاء مع الضحك في كونه تمرينًا لجهاز التنفس
وللدورة الدموية.
في ثقافتنا العربية تستخدم كلمة "الضحك" للإشارة إلى
انطلاء الحيلة أو الخدعة، وربما أشارت إلى التهكم، وهو
ما عناه أبو الطيب المتنبي حين قال:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ترى هل يناسبنا نحن عرب اليوم الضحك أم البكاء؟ هل
ترى هل يناسبنا نحن عرب اليوم الضحك أم البكاء؟ هل
نضحك من أوضاعنا، ونتندر بمن نظن أنهم سبب تخلفنا
وانحطاطنا، أم نبكي ونذرف الدموع على أراضٍ نفقد منها
المزيد كل يوم، وأمجاد لم نحافظ عليها.
ينتشر في أوساط الشعوب العربية استخدام النكتة السياسية
ينتشر في أوساط الشعوب العربية استخدام النكتة السياسية
الساخرة بوصفها نوعًا من تطهير الذات وإفضاء المكنون،
وبذلك يسهم الضحك في تخفيف الضغوط النفسية الناجمة
عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية.
التعبير عن القهر
من النكات السياسية مثلاً ما يروى أن زعيمًا عربيًّا رسم
وشمًا على ذراعه يصور خريطة فلسطين المحتلة، وعندما
سُئل عن السبب أجاب: حتى لا أنساها، فسألوه: وماذا تفعل
لو تحررت فلسطين ووشمك هذا لا يُمحى؟ فقال: أقطع
ذراعي. هكذا تمثل النكتة وسيلة حيوية من وسائل التعبير
عن القهر، وتجسد اتجاهات الرأي العام ومواقفه من
القضايا الساخنة؛ ولذا فهي مفتاح لا غنى عنه لسبر غور
المجتمعات والثقافات، وفهم حراكها السياسي والاجتماعي.
لكن البكاء أيضًا له مكانته في ثقافتنا العربية. في الجاهلية
كان الشعراء يذرفون الدموع على الأطلال، ويرددون
كثيرًا في قصائدهم عبارة "قفا نبك"، رغم عدم وجود
تلازم بين الوقوف والبكاء، وهو ما انتقده أبو نواس بقوله:
قل لمن يبكي على ربع واقفًا ما ضرَّ لو كان جلسْ
كان العرب يتباهون بكثرة البواكي على الميت، وفي رثاء
الخنساء أخاها صخرًا قالت:
ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وبعيد استشهاد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أما حمزة فلا بواكي له".
وتمتم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مؤبنًا خالد بن
الوليد رضي الله عنه: "على مثل أبي سليمان فلتبك
البواكي". ولما قتل مالك بن نويرة في حروب الردة رثاه
أخوه متمم بالقول:
وقالَ أتبكي كلَّ قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلتُ له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبرُ مالك
وفي الأمثال العربية: "ليست النائحة كالثكلى".
كانت العرب ترى أن البكاء للنساء فقط، وأن الرجل ينبغي
ألا يضعف أمام سلطان الدموع. كانوا ولا يزالون يرون
البكاء مشهدًا من مشاهد الضعف وقلة الحيلة؛ ولذا فليس
لائقًا بالرجال. لكن هذا "الضعف" هو سر قوة المرأة
وتأثيرها. دموع المرأة أمضى أسلحتها رغم أنها تشي
بضعفها. لنتذكر مثلاً أن دموع هيلاري كلينتون هي التي
حسمت لصالحها الانتخابات التمهيدية التي جرت مؤخرًا
في ولاية نيو هامبشر.
في ظل الأوضاع البائسة التي يمر بها عرب اليوم، وفي
ظل فقدانهم مزيدًا من الأرض، وتنازلهم عن مزيد من
الحقوق، واستقبالهم المحتلين والغزاة بالورود والبسط
الحمراء، قد يكون البكاء على الطريقة الصينية أحرى بهم
من الضحك على الطريقة الهندية.
تعالوا نذرف الدموع كما ذرفها عبد الله الأحمر عشية
سقوط غرناطة وضياع ما تبقى من الأندلس، فوبخته أمه
قائلة: ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل
الرجال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق