الخميس، 4 نوفمبر 2021

محمد جواد ظريف.. الرجل الذي نطق سرًا بالحقيقة

 محمد جواد ظريف.. الرجل الذي نطق سرًا بالحقيقة

 أحمد مصطفى الغر

في دولة مثل إيران من النادر أن يتم تفسير الأمور بشكلها السطحي، لذا فإن الاحتمال الأكثر ترجيحًا للأحداث هو أن كل ذلك كان مخططًا له بشكل مسبق

"في الجمهورية الإٍسلامية؛ الميدان العسكري هو الذي يحكم، لقد تمت التضحية بالدبلوماسية من أجل الميدان العسكري، بدلًا من أن يكون الميدان خادمًا للدبلوماسية"، كانت هذه الكلمات جزءًا من تسجيل صوتي مسرّب لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي انتقد فيه أيضا القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني، والذي قُتِلَ في غارة جوية أمريكية العام الماضي، كان التسريب يتعلق بمقابلة أجراها أحد مستشاري الرئيس الإيراني حسن روحاني مع ظريف، وتردد لاحقًا أن جهات داخلية لم يتم تسميتها، قامت بسرقة التسجيل ثم نشرته في وسائل إعلام فارسية تُبث من خارج إيران، وبالرغم من أن ظريف قد أكد مرارًا أنها لم تكن مقابلة تقليدية، وإنما جلسة لتبادل وجهات النظر والآراء مع أحد مستشاري الرئاسة حول الاستراتيجية الإيرانية المتبعة خلال الفترة الأخيرة، وقد تسببت هذه المقابلة في ثورة عارمة ضد ظريف، الذي بدا مستاءً جداً من التدخل الواسع لسليماني في الشأن الدبلوماسي، مؤكدًا أنه لم يتمكن يومًا من إقناع سليماني بطلباته، وأنه قدّم الكثير من التنازلات الدبلوماسية من أجل ميدان المعركة. 

فهل يمثّل هذا التسجيل المسرّب فصل الختام لحياة ظريف الدبلوماسية؟، أليس ما نطق به ظريف هو عين الحقيقة الحادثة في إيران؟!

 كانت تعليقات ظريف ستمرّ مرور الكرام، لولا انتقاده لدور الحرس الثوري الإيراني، وحتى قائده المقتول قاسم سليماني، وهذه هى النقطة التي أشعلت الانتقادات ضده برمتها، لكن المتابع بدقة للشأن الإيراني سيجد أن ما قاله ظريف صحيح تماما، فقد قال ظريف إن سليماني هو من أدار السياسة الخارجية الإيرانية طيلة السنوات الأخيرة، بل إنه حاول تقويض الاتفاق النووي لعام 2015، وقال أيضا إن الحرس الثوري الإيراني خرّب مرارًا جهود دبلوماسيي طهران، وأن سليماني رفض الاستماع إلى طلب من وزارة الخارجية بأن تُظهر طهران دعمًا أقل علنيةً للرئيس السوري بشار الأسد، بما في ذلك عدم استخدام شركة الخطوط الجوية الإيرانية لنقل المعدات والأفراد العسكريين إلى سوريا، وعدم نشر القوات البرية على الأراضي السورية، من الناحية النظرية قد تبدو تصريحات ظريف عقلانية تماما، لكنها من الناحية العملية غير ذلك تماما في بلد يحظى الحرس الثوري بنفوذ كبير على الحياة السياسية، فقد نما نفوذه بشكل مطرد منذ أن أنشأه الخميني في عام 1979 في أعقاب الثورة الإيرانية، حيث تم تكليفه بمهمة الحفاظ على منجزات الثورة وتحقيق التوازن ضد الجيش النظامي، وعلى مر الأعوام اللاحقة، سعى المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي، إلى تحقيق تحالف وثيق مع الحرس الثوري لتعزيز موقفه ضد مراكز القوى الأخرى، بما في ذلك السلطات الدينية التي دفعته إلى السلطة باعتباره شخصية ضعيفة يمكن التلاعب بها.

 لا يقف الحرس الثوري عند حدود العمل العسكري والسياسي فحسب، بل يتدخل في أشغال عامة ضخمة ومشاريع صناعية كبرى في قطاعات الطاقة والاتصالات والبنوك والإنشاءات، حيث يحظى بمصادر تمويل مستقلة بعيدة عن الرقابة الحكومية، وحتى عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بعض قادته ومصادر تمويله في عام 2010، أنشأ الحرس الثوري شبكة من الشركات للالتفاف على العقوبات، عن طريق تهريب البضائع للسوق السوداء، حتى بات يسيطر اليوم ـ وفقًا لتقارير ـ على ما يصل إلى ثلثي الاقتصاد الإيراني، بفضل كل ذلك أصبح الحرس الثوري الإيراني لاعبًا رئيسيًا في الحياة الإيرانية، وقد حاول الرؤساء روحاني ورفسنجاني وخاتمي من قبل روحاني، تقليص سلطة الحرس الثوري، لكن دون جدوى، فشلت كل محاولات إفساح المجال للصفقات والاستثمارات الأجنبية من خلال الحد من الدور التجاري الذي يقوم به الحرس، بل على العكس فرض الحرس قوانين تحميه من منافسة القطاع الخاص له.

 بالرغم من حالة الجدل الواسع التي لا تزال مشتعلة، والتي أدت إلى استقالة مسؤول مقرب من الرئيس الإيراني حسن روحاني، لم يعلّق ظريف على التسريب في البداية، انتظر لبعض الوقت قبل أن يكتفى بنشر رسالة صوتية، قال فيها "لا تقلقوا على التاريخ كثيرًا، ليكن القلق الأكبر على الناس أنفسهم، أود أن أعتذر للجميع"، وفيما يخص حديثه عن سليماني، قال: "أعتذر عن جرح المشاعر الصادقة لمحبي اللواء قاسم سليماني وعائلته، خصوصًا ابنته زينب التي تعزّ عليّ كأولادي، آمل أن يسامحني أيضاً شعب إيران العظيم، وخصوصًا عائلة سليماني النبيلة"، فيما نشرت وزارته في وقت لاحق مقطع فيديو يظهر صورة تجمع ظريف بسليماني، مصحوبة باقتباس قالت إنه من التسجيل المسرب، وجاء في المقطع: "أعتقد أن بلادنا تعرضت لضربة كبيرة بعد رحيل الشهيد سليماني، هذه هي معتقداتي وقد أعلنتها في كل مكان، حتى في الاجتماعات الخاصة"، وأكدت الوزارة على أن التسريب كان عبارة عن مناقشة استمرت 7 ساعات، وهى جزء من مقابلات أجريت مع مسؤولين حكوميين بشأن مناقشة انجازات آخر إدارتين لإيران، وقد تضمنت المناقشات آراء شخصية لوزير الخارجية.

 بالرغم من سعي حكومة روحاني إلى التقليل من أهمية التصريحات التي تم تسريبها لظريف، إلا أن ثمة تقارير أشارت إلى أن التسجيل ربما تم تسريبه من قبل الحكومة نفسها لتعزيز شعبيتها على حساب ظريف، لا سيّما قبيل انتخابات الرئاسة في يونيو المقبل، إذ كانت بعض التكهنات تشير إلى احتمالية ترشحه فيها، وبالرغم من أن هذا قد يمثل اغتيالًا معنويًا لظريف الذي يشارك بقوة في المفاوضات التي تجريها إيران مع القوى الدولية لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015 مجددًا، إلا أن الحكومة أرادت من وراء ذلك أيضا أن تُظهر تعرضها لمؤامرة دنيئة للقضاء على هيبتها، وقال المتحدث باسم الحكومة، علي ربيعي: "أمر الرئيس حسن روحاني، وكالة المخابرات بتحديد عملاء هذه المؤامرة، نحن نعتقد أن سرقة هذه الوثائق وتسريبها يشكل مؤامرة ضد الحكومة والنظام وسلامة المؤسسات المحلية الفعالة وضد مصالحنا الوطنية". روحاني نفسه حذّر مما وصفها بـ"مؤامرات الأعداء الذين يحاولون إيجاد شرخ في الصف الداخلي الإيراني"، محاولًا تجميل ما حدث بأنه "من مفاخر النظام الإسلامي في إيران هو أن المسؤولين يطرحون رؤاهم بكل حرية، لكن ليس كل ما يُطرح يعرض على الإعلام، بل تبقى جوانب كثيرة كوثائق سرية يستفيد منها المسؤولون اللاحقون"، وربما قام الحرس الثوري بتسريب التسجيل للإضرار بظريف والمعسكر الإصلاحي عموما.

 لكن هل يمكن أن يكون ظريف نفسه هو من دبّر تسريب التسجيل؟!، ففي دولة مثل إيران من النادر أن يتم تفسير الأمور بشكلها السطحي، لذا فإن الاحتمال الأكثر ترجيحًا للأحداث هو أن كل ذلك كان مخططًا له بشكل مسبق، وربما كانت طريقة ظريف للإشارة إلى خلافاته مع الحرس الثوري الإيراني مقصودة، فبالأساس لا يمكن في ظل دكتاتورية قائمة كتلك الموجودة في إيران أن يتم الحديث بحرية تامة في أمور كتلك التي خاض فيها ظريف، وقد يكون تسريب هذا الحديث عن قصد حيلة من ظريف لإثارة الخلافات داخل السياسة الإيرانية من أجل انتزاع تنازلات في المحادثات النووية الجارية، حيث من المحتمل أن يفوز المتشددون في انتخابات الرئاسة المقبلة، ويعتقد البعض أن إيران ستكون أقل استعدادًا لتقديم تنازلات بمجرد خروج روحاني وظريف من السلطة، وكلما زاد وعي الإيرانيين بهذا التغيير السياسي الذي يلوح في الأفق، يزداد تفكيرهم في واقعهم الذي سيزداد بؤسًا إذا استمرت العقوبات الاقتصادية على بلدهم، وقد يشكل التسريب خطوة لحشد دعم الإيرانيين قبل الانتخابات المقبلة، وقد سمح التسريب لظريف بأن يُظهر أمام الإيرانيين الخطوط الأيديولوجية الفاصلة بين معسكره المعتدل، ومقارنتها مع الحرس الثوري الإيراني والمتشددين، مظهرًا أن لديه أجندة ورؤية إيجابية للبلد، الذي أظهر شعبه مؤخرًا في أكثر من مناسبة رغبتهم في التغيير السياسي الجذري، وحتى استبدال النظام السياسي بأكمله كما فعلوا في الثورة الإسلامية عام 1979، وقد أعرب المتظاهرون عن استيائهم من هذا الوضع خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اندلعت في أواخر عام 2017.

 تعليقات ظريف، لا سيّما التي خصّت الحرس الثوري الإيراني، لم تكن بالتأكيد من أسرار الدولة المصنفة بشكل صارم، بل كان من المفترض أن يتم نشرها في وقت لاحق بعد تنحي الرئيس حسن روحاني، وذلك في سياق مشروع التاريخ الشفوي لمركز الدراسات الاستراتيجية بعنوان "ما وراء الحكومة"، لكن بعض التصريحات كانت غير قابلة للنشر تمامًا، وبالتأكيد لم يكن من المفترض أن يتم تسريبها في هذه المرحلة، وقد يكون نشرها الآن علامة على الفوضى داخل نظام الحكم في إيران، لكن معرفة هوية من قام بتسريب التسجيل لن يرضي الفضول فحسب، بل الأهم من ذلك، سيكون بمثابة نظرة ثاقبة على حقيقة صراعات القوة الإيرانية الداخلية والرؤى المتنافسة لمستقبل هذا البلد، وسواء قام ظريف بتسريب التسجيل أو غيره، وسواء ترشح ظريف وفاز في الانتخابات الرئاسية المقبلة أو أي مرشح إصلاحي آخر أو أحد المرشحين المتشددين، فسيظل النظام قائمًا، وستظل سيطرة الحرس الثوري على السياسة الداخلية والخارجية لإيران وبتوجيه مباشرة من خامنئي، مستمرة وباقية، ولن تغدو تصريحات ظريف عن كونها حجرًا أُلقِى في مياه السياسة الإيرانية الراكدة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق