المشروع الديمقراطي العربي بين مطرقة الاستبداد وسندان الشعبوية
في كلمة له إبان انعقاد المجلس الوزاري الأخير (28 أكتوبر/تشرين الأول)، طالب رئيس الجمهورية المنقلب على الدستور قيس سعيّد، المواطنين الصادقين بـ"تطهير البلاد من كل مَن عبث بمقدرات الدولة والشعب".
بعد ساعات قليلة، بادرَت خلية الإعلام في رئاسة الجمهورية باستبدال كلمة "المواطنين" بكلمة "الوطنيين" (مثلما بادرَت منذ شهر بإلغاء تصريح سعيّد الذي قال فيه إن مليونا وثمانمئة ألف من أنصاره نزلوا للشارع تأييدا له، والحالُ أنهم لم يتجاوزوا بضعة آلاف).
سواء بقيَت كلمة المواطنين الصادقين أم استُبدلت بالوطنيين الصادقين، فإنه لا شيء سيتغيّر في مَغزى الجملة.
هي تعكس باختزال تصوّر الرئيس الشعبوي للسلطة، أي القفز من فوق المؤسسات التي وضعَتها المجتمعاتُ على مرّ التاريخ لتَدارك كل خلل فيها.
الأخطر من هذا الأمر الضمني: ثمة مَن يعبثون بمصيركم، يأكلون لتجوعوا، ويتمتعون لِتشقَوا، إلخ، إلخ، فعليكم بإعادة الأمور لنصابها أيها المظلومون.
كيف؟ بسَحلهم في الشوارع؟ بإغراقهم بالسّب والشتم والوشايات؟ الغموض هنا سيّد الموقف، المهم تشويهُهم وقَتلُهم معنويا مباشرة دون اعتبار لأي من شروط المحاكمة العادلة التي هي ركن أساسي في فكر حقوق الإنسان وتكوين الدول.
أن يقول رئيس جمهوريةٍ منتخبٌ كلاما كهذا يُحرّض المواطنين "الصادقين" على "مواطنين غير صادقين"، وهو الذي يُفترض فيه الحفاظُ على السلم المدني، أن يتفوّه بمثل هذه الجملة أستاذُ قانونٍ المفترضُ فيه معرفةُ دَور الوسائط المجتمعية في التصدي للطُّرق البدائية لإحلال العدل، غَيضٌ من فيض الكارثة التي حلّت بتونس وتُنذر بما هو أعظم.
نحن أمام ظاهرة عالمية يجب ألا تبقى الشغل الشاغل لكبار المفكرين الغربيين مثل الفرنسي بيار روزنفلاون فحسب، وإنما عليها أن تكون أيضا هاجسا جديدا للمفكرين والسياسيين العرب، لا لشيء إلا لأنها بصدد نشر أوهام بالغة القِدم عبر تقنيات بالغة الحداثة إلى جزء من شبابنا الثوري، وبالتالي هي اليوم في تونس تحدٍّ آخر يُضاف لتحدي الثورة المضادة.
الظاهرة
تونس ليست البلد الأول الذي ابتلي بنظام شعبوي.
ففي سنة 1990، وصل إلى الحكم في جمهورية البيرو شخصٌ اسمه فوجيموري، هو الآخر ركبَ موجة شعارات التطهير ومحاربة الفساد، لينتهي في السجن… بتُهَم الفساد.
وفي الفلبين سنة 2016، انتخب شخص نكِرة اسمه دوتيرتي كان يحرّض "المواطنين الصادقين" على قتل تجار ومستهلكي المخدرات خارج أيّ إطار قانوني، وفعلا قُتل العشرات منهم، أحيانا على أيدي البوليس والغوغاء دون أي محاكمة.
سنة 2019، انتُخب في أوكرانيا ممثل معروف بأدواره في قصص عشق وغرام، وكان زادُه الوحيد شُهرته التلفزيونية وخطابه الناري ضدّ الفساد والفاسدين.
أخيرا لا آخرا، الرئيس الأميركي ترامب الذي خرج هو الآخر من عالم التلفزيون والمال بخطاب البغضاء والعنف اللفظي، ليغزو البيت الأبيض مشكّلا أولى بوادر تهديد الشعبوية على معقل الديمقراطية، كما شاهدنا في هجوم أنصاره على الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021.
نحن إذن أمام ظاهرة عالمية يجب ألا تبقى الشغل الشاغل لكبار المفكرين الغربيين مثل الفرنسي بيار روزنفلاون فحسب، وإنما عليها أن تكون أيضا هاجسا جديدا للمفكرين والسياسيين العرب، لا لشيء إلا لأنها بصدد نشر أوهام بالغة القِدم عبر تقنيات بالغة الحداثة إلى جزء من شبابنا الثوري، وبالتالي هي اليوم في تونس تحدٍّ آخر يُضاف لتحدي الثورة المضادة.
مفهوم الشعبوية
الشعبوية ترجمة للكلمة الفرنسية "Populiste" (أو الإنجليزية "Populist")، لم تدخل الاستعمال المكثف في الوطن العربي إلا في العشرية الأخيرة، خلافا لكلمة الشعب (ومشتقاتها) التي نتعامل معها بالفهم المتعارف عليه منذ أكثر من قرن، أو كلمة الشعوبية المعروفة في قاموسنا منذ قرون عديدة.
دخلَت هذه الكلمة الاستعمالَ من أسوأ باب، ألا وهو باب الشتيمة والازدراء.
أذكرُ أنني اكتشفتُها إبان فترة رئاستي (2011-2014) في خضم الهجمات المكثفة على هندامي (لبس البرنس وهو رداء البدو والفلاحين، والنأي عن ارتداء ربطة العنق علامةِ النجاح الاجتماعي والتحضر)، أو فَتح القصر الرئاسي أمام عامة الناس، ناهيك عن زيارة الأحياء الفقيرة وعائلات الشهداء والجرحى.
لم تكفّ الأبواق المأجورة للثورة المضادة عن وصف هذه المواقف والتصرفات بالشعبوية، مع تحميل الكلمة طبقتين من الازدراء: ازدراء الفاعل (باعتبار أفعاله هذه تَصنّعٌ ونفاقٌ وتزلّف للشعب؛ بحثا عن شعبية رخيصة للنجاح في الانتخابات)، وازدراء الشعب الذي تتوجه له هذه الأفعال (بما هو حفنة من الفقراء والمعدمين والريفيين، وهم الذين وُصفوا في الماضي بالرعاع والسوقة والدهماء).
لكن المفهوم تطوّر، ليعنيَ اليوم مَدرسة كاملة في فهم السياسة والتعاطي معها، من الصعب تلخيص خليط عجيب لتياراتها الفكرية والسياسية، وهي تمتدّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. أَضِف لهذا أن للشعبوية خصائص مختلفة حَسب البلدان، فهي مكوَّنة في جزء كبير في الغرب من عداء للعرب والمسلمين، وهي في بلدان أخرى دعوةٌ للحماية الاقتصادية والعَودة للحدود المغلقة مواجَهةً للعولمة (البريكست نموذجا).
لكن هناك نقاط التقاء رئيسية بين تيارات قسّمها أحد المحلّلين إلى 37 فصيلا تنظيميا في أوروبا وأميركا.
ما الذي يجمع مثلا بين الرئيس الأميركي ترامب، وأوربان رئيس الحكومة المَجَرية؟ ما القاسم المشترك بين زعيم يساري مثل الفرنسي ميلانشون، وسياسي إيطالي مُعجَب بالفاشية مثل وزير الداخلية الإيطالي سالفيني؟ ما الذي يجمع بين قيس سعيّد التونسي، وفوجيموري رئيس بيرو السابق.
الثوابت
1. الشعب المحتقر
في الأيديولوجيا الوطنية، الشعب هو المجموعة البشرية التي يتقاسم أفرادُها جملة من الخصائص الموضوعية كاللغة والدين والتاريخ، ويدينون لهذه المجموعة بواجب الولاء والاضطلاع بالمسؤولية تجاهها مقابل الحماية التي توفرها لهم، ناهيك عما توفره لهم من إمكانيات تحقيق حاجياتهم الحياتية.
في فهم الشعبوية، الشعب هو الأغلبية المقهورة التي تتحكم فيها طبقة سياسية ومالية فاسدة متعالية ومحتقرة لعامة الناس، تمتصُّ خيراتها المادية وحقوقها في الكرامة والتميّز والسيادة.
إحدى مفارقات الشعبوية التي ترفع الشعب إلى مصاف التقديس بما هو مكمن كل خير وكل صلاح وكل قوة، أنها لا توجد إلا بشيطنة جزء من هذا الشعب لجزء آخر.
2. الزعيم المخلّص
إنه رمز هذا الشعب المظلوم المُهان والمُحتقَر، ومشروعُ انتقامه من الطبقة الشريرة. إنه الرجل الفذّ الذي جادت به الأقدار أخيرا، المنقذ من الشرّ والشريرين. إنه الوحيد القادر على فهم ما يعاني "الشعب" من أوجاع، ولأن التواصل بينه وبين "شعبه" روحي وعميق، فلا حاجة لمؤسسات وسيطة مثل البرلمانات والأحزاب، الفاسدة بطبيعتها.
الدجل الساكن في عمق الشعبوية هو أن هذا المخلّص الذي سينتقم للطبقات المحتقَرة، لا ينحدر أبدا من هذه الطبقات، وإنما هو جزء من الطبقة الفاسدة التي يدّعي محاربتها.
هكذا كان ترامب -من بدايته كمقاول في نيويورك إلى مقدّم برامج، إلى مليونير لا يدفع ضرائبه- جزءًا أساسيا من الطبقة التي جعل من سبها وشتمها مدخلا لاستبلاه البسطاء والحصول على أصواتهم. نفس الشيء عن قيس سعيّد الذي كان جامعيا ومحاضرا في برلمان النظام القديم، وجزءا من المداومين على الإذاعات والتلفزيونات للنخبة الفاسدة التي يريد محوَها من الوجود.
عندما تتفحص العلاقة الحقيقية بين الزعيم الشعبوي والنخبة، تجد دَوما أنه بصدد تصفية حسابات قديمة مع جزء من هذه النخبة، لأنها لم ترضَ به عضوا كاملا أو احتقرَته. مما يعني أن البسطاء الذين ينطلي عليهم الخطاب الشعبوي، هم مجرّد حطب النار في معركة بين أطراف متنازعة من النخب.
3. استثمار الغرائز
إن مهارة الزعيم الشعبوي هي اللعب على المخزون المتفجر من الأحقاد والضغائن وخيبات الأمل التي تراكمت في صدور الكثيرين، وخاصة الشباب الذي سُدّت أمامه كل الأبواب.
يجب التركيز على أهمية الخطاب "الأخلاقوي" الفجّ في إستراتيجيا الشعبوية. هو يختزل مشاكل المجتمع في صراع بين الخير والشرّ، بين الحقيقة والكذب، بين الطهر والفساد. بهذا الخطاب البدائي تلغى سحريا كل تعقيدات السياسة، وتتأخر حلولها لأن هذه السياسة تتعامل مع واقع معقد أولى علاماته أن الأطهار ليسوا دوما أطهارا، والأشرار يمكن التفاوض معهم لحلول وسطى، وأن الخير والشرّ ساكن بنفس القوة في كل النفوس.
أسهلُ من التوجه للأسباب المعقدة والحلول الطويلة المدى، يَكفي الزعيمَ الشعبوي أن يحرّك أقدم التقنيات وأبسطها: الإشارة إلى عدوّ واضح وتهييج الناس ضده، لكي يتصدّر هو نوايا التصويت في الانتخابات، بل يصل لسدة الحكم فاتحا المجال أمام كل الطامعين في الوصول للسلطة عبر أقصر طريق، وما أكثرهم.
4. الادعاء بتحقيق أرقى أشكال الديمقراطية
القواسم المشتركة بين الاستبداد والشعبوية كثيرة، منها أسطورة الزعيم المنقذ ومزاعم "التطهير" من الفساد وتحقيق مطالب المعذبين في الأرض. لكن ثمة بينهما اختلاف جوهري. ففي حين يجاهر الاستبداد بعدائه للديمقراطية، تجاهر الشعبوية بعزمها على خلق أرقى أنواعها. هي ترى نفسها الفرصة التاريخية لإعادة الشباب لديمقراطية تعتبرها في شكلها الحالي -أي الديمقراطية البرلمانية التمثيلية- بمثابة عجوز تحتضر. إنها أسطورة الديمقراطية القاعدية التي تدعي أن "الشعب" سيكون ممثَّلا أحسن تمثيل بأفراد من خارج الأحزاب "الفاسدة كلها جملة وتفصيلا"، وأن هؤلاء الأفراد -الذين لا خبرة لهم ولا برنامج- هم أقدر على سَنّ القوانين وإبرام المعاهدات الدولية وتحديد السياسات البعيدة المدى، من مؤسسات "فاسدة كلها بطبيعتها".
عندما تقول لهؤلاء المنظّرين الكبار: الديمقراطية التمثيلية لها عيوب معروفة رصَدَها على مدى أكثر من قرن، أصحابُها وأعداؤها على حد سواء، لكنّ هذا لم يمنعها من الانتشار في العالم أجمع، لأنها تُصلح باستمرار عيوبَها وتُعالج أمراضها بنجاح متفاوت. أعطونا أمثلة لديمقراطيتكم القاعدية وأرونا نجاحها الباهر في بلد واحد. الردُّ وابل من السبّ والشتم، لأن الخاصية الأخرى للشعبويين ليست فقط القحط الفكري، وإنما بذاءة لسان تفضح المعدن الحقيقي لهؤلاء الأطهار الذين يريدون "تطهير البلاد من عبث المتآمرين على الشعب والدولة".
الإنذارات
لا أحد يدري كم ستدوم هذه الجائحة السياسية، وما ثمنها على صعيد الشعوب قبل أن تنتبه الأغلبية للدجل والفراغ الفكري والمرض النفسي والعقلي المختفي وراء شعارات "التطهير" والتخوين والإيهام بوجود الحلول السحرية.
سيكون من باب اللامسؤولية عدمُ الانتباه للرسائل المبطنة التي تحملها الظاهرة، وهي بحسب رأيي ثلاثة:
1. انتبهوا أيها الديمقراطيون لأخطائكم. إنكم وأنتم منشغلون عن آلام الناس ومشاكلهم المعيشية بصراعاتكم على السلطة، تعطون للشعب أسوأ الصور عن الديمقراطية. ألا يتحمل البرلمان التونسي، بما حدث فيه من مشاهد معيبة طوال السنتين الأخيرتين -وإن كان هناك قصد تخريب متعمّد- جزءا من مسؤولية قبول الشعب للانقلاب؟
2. انتبهوا أيها الديمقراطيون لسهولة الاستيلاء على آليات الديمقراطية، وقدرة الاستبداديين والشعبويين على استعمالها لضرب الديمقراطية. هل كانت الثورة المضادة تنتصر في انتخابات 2014 في تونس، لو حمَت الديمقراطية نفسها ضدّ إعلام فاجر استغلَّ حرية الرأي والتعبير لضرب الثورة التي هي مَن أعطته هذه الحرية؟
هل كان قيس سعيّد وأمثالُه يَصلون السلطة لو وُضعت للترشح للرئاسة والبرلمان شروطٌ تتضمن التزاما بالقيم الديمقراطية ماضيا وخبرة طويلة في مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية؟
كم هو مُضحكٌ مُبكٍ أنّ أغلب المترشحين من الشعبويين في كل العالم يفاخرون باستقلاليتهم وبعدم انتمائهم لأي حزب وبعدم وجود أي برنامج لديهم، ويُصوَّت لهم على هذا الأساس. تصوروا لو كانت الجامعات والمؤسسات الاقتصادية تعهد بمصيرها لأشخاص يفاخرون بأنهم لا علاقة لهم بالميدان. هذا بالضبط وَضعُ الديمقراطية، وهذا باب آخر يتعيّن سدّه بتشريعات ملزِمة تغلق الباب أمام كل المرضى النفسيين المغامرين بمستقبل الشعوب.
3. انتبهوا أيها الديمقراطيون لهشاشة الوعي الشعبي وسهولة التأثير عليه، خاصة عبر تقنيات تضليل واسعة النطاق تقودها شركات مختصة تَعرف على أي أوتار حسّاسة يجب الضرب. هنا أيضا ثمة تفكير معمق لمواجهة هذه التقنيات البالغة الخبث، من استطلاعات الرأي الموجهة إلى احتلال الفضاء الافتراضي بآلاف الصفحات المشبوهة المتخصصة في سبّ "المواطنين غير الصادقين"، مرورا بكل أنواع الإعلام الموجه المملوك لقوى المال التي لا يُعرف عنها حبّ الديمقراطية.
ختاما
يجد المشروع الديمقراطي العربي نفسَه اليوم بين مطرقة الاستبداد وسندان الشعبوية. هل نحن إذن أمام مهمة مستحيلة محكوم عليها بالفشل؟
إنها قراءة النصف الفارغ من الكأس. فيما يخصني، هذا الكأس الشهير هو نصف فارغ، ولكنه أيضا نصف ملآن، ملآن بكل نضالات شعوبنا منذ نصف قرن، لكي تخرج من وضعية شعوب رعايا تملكها دول يقودها فاسدون أو مجانين منغلقون على أقطار يعتبرونها مزارعهم، لنصبح شعوبا من المواطنين يمتلكون دوَل قانون ومؤسسات تبني يوما قريبا نظاما عربيا جديدا اسمه اتحاد الشعوب العربية الحرة.
زِد قطرة نضال عنيد لكي يرتفع منسوب امتلاء الكأس. قطرة بعد قطرة بعد قطرة…
هل المحيط على اتساعه إلا كل ما فيه من هذه القطرات!
ولا بدّ لليل أن ينجلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق