الحرمان من التطبيع عقوبة
ليست المفاجأة في أن للكيان الصهيوني بصمات على انقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان، وإطاحته الحكومة المدنية في السودان، كما أنه من باب تحصيل الحاصل القول إن تل أبيب كانت حاضرة ومؤثرة في عملية الانقلاب، سواء عن طريق الوفد الذي أرسلته إلى الخرطوم، أو عن طريق القاهرة، حيث حلّ البرهان زائرًا، في السر، قبل أن يعود بالخطّة وطريقة تنفيذها.
كل ما سبق صار من الأشياء العادية في عالمنا العربي، وقد تحدّث به الركبان، ووثقته مطالبات واشنطن من إسرائيل بلعب الدور الأساس في البحث عن مخرج من حالة الانسداد السياسي التي تخيّم على السودان، وجديد هذه المطالبات كشفت عنها الصحافة الأميركية والإسرائيلية، على مدار اليومين الماضيين، ومحورها الأهم أن يستخدم الكيان الصهيوني نفوذه وعلاقاته العميقة مع جنرالات السودان، للتوصل إلى حلول لمعضلة الانقلاب العسكري.
المشين والمهين في المسألة أن يكون جيش السودان، بلد اللاءات الثلاث الشهيرة (لا صلح لا اعتراف لا تفاوض) مع العدو الصهيوني، هو الجسر والمدخل لهذا العدو الذي صار صديقًا وحليفًا وراعيًا حكم العسكر، لكي يتغلغل في عمق المسألة الوطنية السودانية، ويصبح، في لحظة شديدة السواد، الجهة التي يعوّل عليها المجتمع الدولي وصانع القرار الأميركي في التعاطي مع أزمات السودان.
يحدُث ذلك بينما مؤسسة عربية عتيقة، اسمها جامعة الدول العربية، سقطت بيد شخص اسمه أحمد أبو الغيط، لا شغل ولا شاغل له سوى اللفّ على برامج التلفزيون المسائية لكي ينفث سموم كراهيته وتحريضه على كل ملمح من ملامح ثورات الربيع العربي، داعمًا، في استبسال، كل انقلاب أو ثورة مضادّة تعصف بالحياة المدنية وتحرق منابع الديمقراطية في كل مكان.
اللافت والمثير في موضوع لجوء واشنطن إلى وزير الدفاع الصهيوني، للضغط على عسكر السودان لحلحلة الأمور، هو التلويح بجزرة التطبيع وعصاه، إذ تقول الصحافة الصهيونية حرفيًا إن وزارة الخارجية الأميركية أكّدت للإسرائيليين الأسبوع الماضي"إنه من الضروري إعادة تقييم مسيرة التطبيع الإسرائيلية السودانية بسبب الانقلاب العسكري".
هنا، في عمق مستنقع السياسة العربية، لم يعد التطبيع عارًا أو جرعةً من السمّ تضطر أنظمة عربية لتعاطيها في الخفاء، من أجل مصالح أهل السلطة، ولم يعد شرًا لا بد منه يتذرّع مرتكبه بأن الظرف التاريخي والواقع الإقليمي يفرضانه عليه .. لقد صار التطبيع وسيلة مكافأة، وأداة عقاب، في الوقت ذاته، تستخدمها إسرائيل لإصلاح المطبّعين العرب وتأديبهم، فتمنح من ترضى عنهم، هي وواشنطن، جرعات إضافية لمكافأة الشطّار، وتمنع الجرعات الاعتيادية عن البلداء الذين يسلكون برعونة ولا يسمعون الكلام.
في حالة عبد الفتاح البرهان، تريد واشنطن من إسرائيل تهديده بالحرمان من التطبيع، حتى يرتدع ويعيد المكوّن المدني الذي أطاحه إلى السلطة، أو إلى اللعبة، كما تحدّد واشنطن وتل أبيب ضوابطها وشروطها والمساحات المسموح بالتحرّك فيها، فضلًا عن التحكّم في اختيار اللاعبين.
على ضوء معطيات هذه اللحظة المأساوية، تكون إسرائيل صاحبة قرار الانقلاب، وهي أيضًا صاحبة الأمر والنهي في التراجع عنه، أو تخفيف حدذة إجراءاته .. هي السلطة الأعلى من سلطة العسكر الذين تتحالف معهم وتدعمهم، التي تقول لهم متى يتحرّكون وأين يتوقفون.
أتخيل الآن لو أن عبد الفتاح البرهان استجاب لمقتضيات النفوذ الصهيوني، وأعطى رئيس الحكومة المدني، عبد الله حمدوك، نصيبه في السلطة، وأفرج عن الوزراء والمسؤولين المتحفظ عليهم، وأعادهم إلى مواقعهم، ورجع المشهد السوداني كله إلى حدود ما قبل عودة البرهان من رحلته السرّية إلى القاهرة، والتي تحدثت عن تفاصيلها صحيفة وول ستريت جورنال .. أتخيّل ذلك كله فترتسم خطوط كابوس مرعبٍ تبدو فيه إسرائيل اللاعب الأول في الانقلاب على مخرجات الثورة، وأيضًا، في تهذيب الانقلاب وإيقافه عند حدوده المرسومة له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق