خرجنا من التيه ولم ندخل الأرض المقدسة!
الأمور تنقلب وتتقلب، والبُعد القدري سببٌ من الأسباب.. بذور السقوط تُبذر في أوج الصعود، وبذور الصعود تبذر في قاع السقوط.. في اللحظة التي أكتب لك فيها الآن؛ هناك موسى ينشأ في قصرٍ لفرعون، وهناك فرعون يبذر بذور هلاكه!!
في سنة 656 هـ أسقط التتارُ الدولةَ العباسية ودخلوا بغداد وقتلوا آخر خلفائها المستعصم بالله.. وفي ذات السنة وُلد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية!!
في سنة 532هـ هربت أسرةٌ في ظلام الليل من قلعة تكريت خوفاً من أعدائها، وفي الأسرة رضيعٌ علا صياحُه حتى هَمَّ أبوه بقتله خوفاً من أن يدركهم أعداؤهم؛ فنهاه أحدُ أتباعه؛ ليحفظ اللهُ الطفلَ المسمى (صلاح الدين الأيوبي) لحطين والقدس!!
في أوج عظمة الدولة العثمانية سنة 1535م؛ غَرَسَ أعظمُ سلاطينها سليمان القانوني بذرة (الامتيازات الأجنبية) كأولِ غَرْسِ خرابٍ نبتَ واستفحل على مَرِّ العصور؛ حتى كان من أقوى أسباب سقوط الدولة بعد ثلاثة قرون!!
لا تستهن بنسج الأقدار ولا تسخر منه؛ فإن الله لا يتركُ خَلقَه لِخلقِهِ وإن ظَنَّ المتعجلون ذلك.
لم يكن الثوب قبل اكتماله سوى قطعةِ قماشٍ عَمِلَ فيها المقصُّ والإبرةُ عملهمَا حتى اكتمل ثوباً، ولم يكن السيف قبل اكتماله سوى حديدةٍ عملت فيها النارُ عملها حتى اكتمل سيفاً.. أنت تنظر إلى الأشياء بعد اكتمالها وتنسى مسيرة آلامها نحو الاكتمال.. تريد أن تستيقظ صباحاً لتعايش لحظةَ هارونِ الرشيد وهو يقول للسحابة: «أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك»، وتنسى مسيرة المعاناة التي خاضها أجدادُه على مدار سبعين سنة ليوصلوه إلى تلك اللحظة.
لقد تحققت للمسلمين في عِقدٍ زمني واحد مكاسب ما كانت لتتحقق لولا هذه الثورات والثورات المضادة.. تساقطت في نفوسهم صنمية الدولة عامةً وصنمية الدولة القومية والوطنية خاصة، وفقدت مؤسسات الأنظمة احترام قطاعٍ واسع من جماهير المسلمين، وظهرت الجيوش والعروش على حقيقتها كوكيلٍ للنظام العالمي المحتل، وانهارت شعارات الوطن والوطنية حين رأى الناسُ لصوصَ أوطانهم الحكام يقتلونهم ويستعينون بالاحتلال لقتلهم، وتَعَرَّتْ القوى العلمانية والليبرالية والمتأسلمة برموزها ومؤسساتها، واكتشف الناسُ سرابية صندوق الانتخابات وألاعيب النظام العالمي به وفيه، وظهرت الديمقراطية على حقيقتها كأداةِ حرب يَسحقُ بها النظامُ العالمي المسلمين؛ لا كنظام حُكمٍ يَصلُحُ أن يسوسَ به المسلمون المسلمين، وتجذرت روح (الأشعث الأغبر) في نفوسِ كثيرٍ من شباب الأمة عامةً وشبابِ الجماعات الإسلاموقراطية خاصة؛ بعد أن كانوا يرونها- منذ عشر سنوات فقط- تهوراً وحمقاً ومجلبةً للخراب!!
كل هذه المكاسب وغيرها.. مَثَّلت خروجاً لأفرادِ الأمة من التيه، بيد أنها لا تكفي لإدخالهم الأرض المقدسة.. تحتاج الأرض المقدسة إلى خلاص كامل من شوائب الجاهلية المعاصرة، ولا خلاص إلا بالعقيدة الأولى.. لا خلاص إلا بخلع الثوب كله، والخروج من الصندوق كله، وإسقاط الأوهام كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق