لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلَا يُغَرّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
أَعِنْدَكُمْ نَبَأٌ مِنْ أَهْلِ أَنْدَلُس
فَقَدْ سَرَى بِحَدِيثِ القَوْمِ رُكْبَان
يَا غَافِلًا وَلَهُ فِي الدَّهْرِ مَوْعِظَةٌ
إِنْ كُنْتَ فِي سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ
كلّما أتى الثّاني من يناير/كانون الثّاني صفعنَا أبو البقاء الرّنديّ بقصيدته التي تقشعرّ منها أبدان ذوي الألباب في رثاء الأندلس التي غادَرها الأذان في مثل هذا اليوم من عام 1492م.
في ذلكم اليوم سلّم أبو عبدالله الصّغير مفاتيح غرناطة وغادَرها إعلانًا بخروج الأندلس من أيدي المسلمين، وليجلس على قارعة الهزيمة يبكي فتقول له أمّه قولتها المشهورة التي ما تزال تتردّد في أذن الزّمان: “ابكِ كالنّساءِ ملكًا لم تحافظ عليه كالرّجال”.
ملوك الطّوائف إذ يفتكون بتاريخنا
لستُ هنا في واردِ تقديم استعراضٍ للأسباب التّفصيليّة لسقوط الأندلس، كما أنّني لا أرغب في اختزال الأسباب المركّبة في سببٍ واحدٍ، لكنّ ما لا تخطئه عينُ مستبصر ٍأنّ تمزّق الأندلس إلى أكثر من عشرين دويلةً على كلّ دويلةٍ ملكٌ أو خليفةٌ أو أميرٌ للمؤمنين صاروا يدعون “ملوك الطّوائف” وسلوكهم السياسيّ وتناحرهم العسكريّ كان من أهمّ أسباب سقوط الأندلس.
ابتداءً من احتدام الصّراع بين ملوك طليطلة وسرقسطة واستعانة كلّ منهما بعدوّه لينتصر على أخيه فيسيل لعاب ألفونسو ويستولي على طليطلة عام 1085م لتكون أولى الدويلات الأندلسيّة سقوطًا وصولًا إلى سقوط غرناطة بعد قرابة أربعة قرون؛ شهدت الأندلس حالةً من التناحرِ البائس الذي يدمى له قلب المسلم الغيور بين ملوك الطوائف.
لم يكن هناك أدنى غضاضة عند أحدهم من أن يدفع الجزية للأعداء من ملوك الإسبان مقابل ألّا يتنازل أحدهم لملكٍ أو حاكمٍ منافس له من المسلمين، بل وصل الأمر بهم إلى أن يستقوي بعضهم بالأعداء الذين يتربّصون بهم جميعًا ويستعين بهم عسكريًّا ضدّ ملوك الطوائف الآخرين.
ويصف ابن خلدون هذا المشهد في أكثر من موضع من تاريخه المسمّى “العبر” إذ يقول في أحدها: ” تفاقمت الفتنة، واستظهر كلٌّ على أمره بالطاغية -يقصد بالطّاغية فرناندو الثالث- ونزلوا له عن كثير من الثغور، وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس”.
وكذلك يقول ابن بسام الشنترينى نقلاً عن ابن حيان، مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري: “وقد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، طالما حذر أسلافنا لحاقها، بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره.
ولا شك عند أولي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التّقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتّمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة”.
كما وصف ملوك الطوائف في موضعٍ آخر من كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” بقوله: “إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا فجأة، صدرَ شهر رمضان من العام، فصكّ الأسماع وأطار الأفئدة وزلزل الأرض الأندلسيّة قاطبة، وصيّر للكلّ شغلًا تسكّع الناس في التّحدث به والتّسآل عنه والتّصوّر لحلول مثله أياًما لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل، والاغترار بالأمل، والإسناد إلى أمراء الفرقة الهمل، الذين هم منهم ما بين فَشَلٍ وَوَكَل، يصدّونهم عن سواء السّبيل، ويلبسون عليهم وضوح الدليل”.
وهكذا كان لملوك الطوائف وتصارعهم فيما بينهم وخضوعهم لعدوهم ودفع الجزية له واستقوائهم به على بعضهم البعض الأثر الكبير في سقوط الأندلس التي ما يزال المسلمون يجدون مرارتها في حلوقهم إلى يومنا هذا. إنّها سنن الله التي لا تحابي أحدًا فليس بين الله تعالى وبين أحدٍ من خلقه نسبٌ.
وماذا عن ملوك الطوائف اليوم؟
إنّ نظرةً سريعةً تجعلنا نعاين أنّ ملوك الطّوائف اليوم من المتحكّمين برقاب الدّول المسكينة المتفرّقة على أكثر من عشرين دولةً ولكلّ واحد منهم لقبه الذي يعتزّ به ويتفاخر؛ لم يختلفوا في تناحرهم فيما بينهم وخضوعهم لعدوّهم عن ملوك الطّوائف بالأمس، بل إنّنا نراهم يدفعون الجزية جهارًا نهارًا للعدوّ الذي يقصفنا بطائراته ويدمّر حواضرنا ويفتك بالمسلمين في بقاع شتّى، وأشدّ من ذلك استعانتهم بهؤلاء الأعداء على بعضهم بعضًا.
إنّ مشهدهم لا يكاد يفترق عن صورة ملوك الطوائف بالأمس في التّفرّق والتشرذم، وفي التحاسد والتّباغض، وفي الصّراع العسكريّ والسّياسيّ العلنيّ والخفيّ، وفي الخضوع للأعداء والاستقواء بهم على أبناء الجلدة.
لكن مهلًا فهناك فارقٌ رئيسٌ بين ملوك الطّوائف في الأندلس وملوك الطّوائف اليوم في أكثر من مجالٍ من أهمّها أنّ الحركة الفكريّة والثقافيّة والدّينيّة والحريّات المجتمعيّة كانت متميّزة وليست خاضعةً للحالة السياسيّة المتهافتة البائسة ولا تشبهها في السّوء، فقد كان ملوك الطّوائف في الأندلس في إطار تصارعهم مع بعضهم بعضًا يعمل كلّ واحدٍ منهم على استقطاب الكفاءات العلميّة والفكريّة ويفتح لها آفاق العمل بحريّة مع تقديم الإمكانات وتذليل العقبات في إطار التّنافس بين ملوك الطوائف فكلّ منهم كان يرى في ذلك سببًا من أسباب التّفاخر على خصومه والنّكاية بهم والانتصار عليهم.
كما أنّ سقف الحريّات الفكريّة والعلميّة كان عاليًا فلا اعتقالات على خلفيّات الفكر والرّأي، ولا اعتقالات أو اغتيالات للمنتقدين لسياسات ملوك الطوائف مهما بلغت قسوتها.
فلك أن تتخيّل مثلًا أنّ ابن حزم كان يشدّد في انتقاده القاسي على ملوك الطوائف فلا يلقى إلّا التّكريم فلم يتمّ اعتقالُه أو مداهمة بيته فجرًا وترويع أهله ولا الحكم عليها بتوهين نفسيّة الأمّة، ولا نفيه من البلاد وتركه مشرّدًا مطاردًا في بلاد الله الواسعة؛ فهو يقول مثلًا في حديثه عن ملوك الطّوائف: “والله لو علموا أن في عبادة الصُّلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكّنُونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أُسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوْها من الإسلام وعمَّروها بالنواقيس، لعن اللهُ جميعَهم وسلَّطَ عليهم سيفًا من سيوفه”.
لك أن تتخيّل أن يقول أحد علماء العصر المقيمين في أماكن تطالها أيدي أجهزة مخابرات ملوك الطوائف اليوم فماذا يمكن أن يكون حاله وما الذي يمكن أن يحلّ به؟!
بل إنّ مدن الأندلس بقيت في فترة ملوك الطوائف وصراعهم الذي امتدّ قرابة أربعة قرون بيئةً تستقطب طلّاب التميّز العلمي من مختلف المدن الأوربيّة ومن مدن الشرق الإسلاميّ، وكانت المدن الأندلسيّة وفي مقدمتها إشبيلية عواصم علميّة وثقافيّة حقيقيّة لا محض شعاراتٍ زائفة واستعراضات فارغة.
إنّ ملوك الطّوائف في الأندلس الذين كان صراعهم سببًا رئيسًا في ضياع فردوسنا المفقود كانوا -للأسف البالغ- أهون شرًّا من ملوك الطّوائف اليوم الذين لم يفتكوا بالحياة السياسيّة والقدرات العسكريّة للدول فحسب بل فتكوا أيضًا بالحياة الفكريّة والثّقافيّة ودمّروها تدميرًا وجعلوا حلم أيّة كفاءة علميّة أو فكريّة مغادرة هذه الأوطان التي غصّت سجونها بأهل العلم والفكر والدّعوة والإصلاح.
لقد دمّر ملوك الطّوائف اليوم الإنسان بكلّ ما تحمل كلمة الإنسان من معانٍ؛ فلم يبقَ أيّ معنىً من معاني الإنسان صالحًا في ظل حكمهم العظيم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق