كان أستاذي يكثر من استعمال لفظ الجاهلية في ميادين مختلفة، وإن جمعها معنى أصلي واحد.
كان أستاذي يتصور العلم نورًا أضاء الحقيقة فإذا بكل ما سبق هذه الإضاءة جاهلية وظلام.
وكان يلذ له أن يتحدث عن بعض الحالات التي أصبحنا نشخصها بسهولة بفضل الآلات الحديثة والتكنولوجيات المتقدمة ثم يقول: كنا في الجاهلية نعجز عن هذا ونضرب أخماسا في أسداس، ونظن أننا أصبنا هدفنا بينما زدنا الموضوع ظلاما.
وعلى خلاف رأي أستاذي في التقدم العلمي كان رأيه في التطور السياسي إذ كان يرى أن السياسة المعاصرة في عهد الثورة تدفع بنا إلى الوراء وإلى الخلف وإلى الأسفل، وكان يأسف للحال العمومية التي صرنا إليها، وكان شعوره في رأيي محصلة إحباط مر به وهو يتفتح على الدنيا في كهولته فيراها أسوأ مما رآها بالأمس وهو يتفتح على صباه وشبابه، ثم إنه أصبح وهو يقترب من الشيخوخة يرى الحياة أصعب وأظلم، وربما كان هذا سببا في عقيدته هذه وحنينه إلى الماضي.
كان أستاذي نموذجًا بارزًا للذين لا يفتأ الحنين إلى العهد الملكي يراودهم، وكان كثير المقارنة بين عهد الثورة وعهد الملكية، ولعله كان يقصد المقارنة بين الشمولية والليبرالية، لكنه كان يؤثر الحديث بالصيغة المعتادة في مصر من المقارنة بين عهدي الجمهورية والملكية، وهو حديث شائع، وكان أستاذي يبالغ في حنينه هذا فيسخر من العهد الحاضر وتصويره لنفسه على أنه «إسلام»، وأن ما قبله «جاهلية».
وكانت لأستاذي أسباب كثيرة في هذا التوجه، ولا أظن كتابي هذا موضعًا لمناقشة كل هذه الأسباب، وإن كان لابد لحواراته أن تتعرض لبعض هذه الجزئيات.
ومن الجدير بالذكر أن أستاذي كان يؤمن بأهمية وجود روح نظام الطبقات حتى في غياب الطبقات نفسها، وكنت أتفق معه في هذا الإيمان وذاك عن عقيدة سابقة على معرفتي به، وكنت كثيرا ما أحدثه عن فكرتي الداعية إلى الارتقاء الأرستقراطي بشخصيات أعضاء هيئات التدريس في الجامعة من خلال برامج عديدة ومتكررة، بل من خلال الخروج بهم إلى مواطن الحضارة في العالم لاكتساب الحضارة، بالإضافة إلى العلم.
وكان أستاذي أكثر وعيًا مني بهذا المعنى، وإن كنت قد اشتهرت في المحيط الجامعي بأني أكثر منه ومن غيره تعبيرًا عن مدى الحاجة إلى تنمية هذا المفهوم، وذلك بسبب سعة المساحة التي أتيحت لي للحديث والكتابة في هذه الموضوعات.
وفي إحدى المرات كنا نتحدث عن فشل أحد أساتذتنا في إنجاز بعض ما أسند إليه من مسؤولية سعى بنفسه إلى تحملها، وقد بدأ أستاذي الحديث فسألني: ما هو سبب فشل صديقنا في أداء مهمته؟
قلت: لأنه يفتقد المنهج في التعامل مع المشكلات.. هو يظن أن كل واجبه أن يرضي هذا وذاك.
قال: والنتيجة؟
قلت: يرضى هذا ساعة، ويرضى ذاك ساعة، ويعود إلى مراضاة هذا وذاك، ولا يزال يحكي للناس أنه أرضى هذا لكن الظروف تغيرت، ولأناس آخرين أنه أرضى ذاك لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.
قال: لم تفهم سؤالي يا محمد.. إنما سألت عن سبب فشله.. لا عن سبب استمراره في الفشل.. فالذي يفعله هذا هو استمرار للفشل، وسيظل يؤديه متصورا أنه لا يكف عن العمل من أجل الكلية.
قلت: لكن تكوينه العقلي لا يسمح له بأكثر من هذا.
قال: ها أنت تبتعد مرة أخرى عن المنطقة التي أحب أن أطلعك عليها.
قلت: الأمور واضحة، ولو ظل في منصبه عشرين عامًا فسيظل يؤدي بالأسلوب نفسه، وهناك كثيرون مثله سيؤدون بالأسلوب ذاته مع اختلاف في التفاصيل والأغلفة التي يصنعونها حول تصرفاتهم.
قال: وهذا هو جوهر ما أريد أن أدلك عليه.
قلت: لو مرّ هؤلاء بتعليم عام متميز وأتيح لهم أن يمارسوا الأنشطة التربوية من مسرح ورياضة وكشافة ورحلات وخطابة وسباق ضاحية وخروج في سبيل الله، لتزودوا من هذا التعليم بما يسهل عليهم أداءهم لمهمتهم، ولكنهم تعلموا في مدارس بنيت على عجل ملحقة بالمدارس الأصغر منها، فالثانوي فصول ملحقة بالإعدادي، والإعدادي فصول ملحقة بالابتدائي.. وهكذا، ولم يتح لهذه المدارس ما أتيح لكم في مدارس جيلكم من تعليم وتربية وإتقان ونشاط، ولهذا تراهم يتصرفون بهذا الأسلوب الأبتر.
قال: أنت لازلت يا محمد تتحدث عن المشكلة من واقع تحليلك لها، أي من واقع ما تراه فيها من مظاهر المرض، ومظاهر القصور، ومظاهر الفشل، ثم تستشرف السبيل إلى الصواب فتستبطن ذاتك وتقارن بين إمكاناتك وإمكانات هؤلاء الكثيرين وتشخص السبب.
قلت: وماذا في هذا الأسلوب إن كان كذلك؟
قال: اسمح لي أن أقول لك: إن اتباع هذا الأسلوب مع نجاحه في التشخيص، ونجاحه في وصف العلاج فإنه لن يحل المشكلة.
قلت: تقصد حضرتكم أن التكوين العقلي والوجداني للقيادات الجامعية ليس هو كل المطلوب من أجل أداء أفضل؟
قال: تماما.. هذا ما أقصده، وقد عبرت أنت الآن عما أقصد بأدق بكثير مما يمكن لي أن أعبر عنه.
قلت: فما هو الجانب الفني الذي أهملته في تشخيصي وتريد حضرتكم أن تنبهني إليه؟
قال: ألا تحدس؟
قلت: إذا كان هذا الجانب هو الجانب الإيماني فإن التكوين العقلي والوجداني يتضمنانه.
قال: يا محمد.. هل أنا أجهل هذا؟ هل تعتقد يا محمد أن لحيتي هذه تدفعني إلى تكرار الحديث عن الإيمان بمناسبة وبدون مناسبة كما يفعل أصحابك الحريصون على أن يعرف عنهم أنهم ملتزمون؟
قلت: فماذا تعتقد إذاً؟
قال: هل تذكر حديثك الشيق في الأسبوع الماضي حين زرنا وكيل الكلية لشؤون الطلاب في نهاية اليوم وألقيت على الحاضرين في مكتبه محاضرة طويلة وممتعة عن قدرة نظام التعليم العام الألماني (الغربي) على فرز الطبقات، وعلى حجب بعض طبقات المجتمع من الوصول إلى كليات القمة وإلى مواقع المسؤولية التي تتطلب رقيا والتزاما من نوع عميق؟ هل تذكر يا محمد كيف استمع إليك جميع الأساتذة لأكثر من ساعة وتركوا عياداتهم من دون أن يتململوا أو يظهروا الرغبة في انتهائك من حديثك؟
قلت: أذكر هذا وأشكر لكم مثل هذا التشجيع.
قال: إذًا كيف فاتك أن هذا هو جوهر ما أريد الحديث عنه في متطلبات هذه المناصب العليا؟ لابد يا محمد من روح الطبقات، وأنا أقولها لك وأجرى على الله، وبدون هذه الروح لن تتقدم هذه الأمة.
قلت: أ فيصدر مثل هذا التصريح الخطير عن أستاذ من الإخوان المسلمين؟
قال: من الإخوان المسلمين أو من الآباء المسيحيين أو من الأبناء الشياطين أو من العفاريت الزرق على حد تقسيماتك الجميلة، دعنا نتحدث في جوهر الموضوع، واترك الدوجمات الجامدة الآن، وستفهم بعد قليل أن هذا الذي أتحدث عنه هو أسّ أساسيات التقدم قبل الإخوان وغير الإخوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق