إنها لعنة الدماء والمال الحرام
ما يحدث في مصر هذه الأيام ليس طبيعيا أبدا، لا يمكن قبول الادعاء بأنه جزء من سياق دولي متأزم بعد جائحة كورونا وجائحة الحرب الأوكرانية كما يحلو لأبواق النظام ترديده، فالجائحتان لم يكن مركزهما مصر، ولم تكن تداعياتهما مركزة على مصر، العالم كله تعامل مع الجائحتين بردود فعل متنوعة، ونجحت غالبية البلدان في التعافي من تلك التداعيات سريعا، وحتى في مصر حاول النظام التغني بأنه تمكن من مواجهة تداعيات الجائحتين.
إذن فما هو تفسير الكوارث التي تعيشها مصر الآن، من غلاء فاحش، وانهيار قيمة الجنيه بما يعنيه ذلك من تراجع الدخول والمدخرات الحقيقية للمصريين، وعدم قدرة تلك الدخول على توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، وتراكم الديون الداخلية والخارجية على الدولة بما يقصم ظهور أجيال وأجيال؟ ورغم ذلك تستمر السلطة في مشروعاتها الكبرى التي لا حاجة عاجلة إليها، وهي التي استنزفت ولا تزال تستنزف مقدرات الدولة، وتدفع إلى الحصول على المزيد من الديون الخارجية المرهقة، بل تدفع للتنازل عن الشرف والسيادة.
تتبجح أبواق النظام بأن الغلاء أزمة عالمية، ويقارنون الأسعار في مصر بمثيلاتها في دول أوروبا والغرب والشرق، لكنهم يتغافلون عن عمد عن مستويات الرواتب والدخول في تلك الدول، وما لحقها من تحسينات كبرى لمواجهة الغلاء، كما يتجاهلون بيئات العمل والاستثمار في تلك الدول والتي تسمح للكثيرين بتحسين أوضاعهم المالية، على خلاف الوضع في مصر؛ حيث محاصرة الاستثمار ورجال الأعمال، واعتبارهم أعداء للوطن حتى يثبت العكس.
الظلم مؤذن بخراب العمران كما قال ابن خلدون في مقدمته، وما شهدته مصر من ظلم خلال السنوات العشر الماضية فاق كل تصور، وهو مع قبول الكثيرين به ضد بني وطنهم كفيل بنزع البركة، وخراب العمران، وتلك هي قوانين العدل الإلهي التي تنصر دعوة المظلوم ولو بعد حين.
هل يتصور أحد أن كل تلك الدماء البريئة التي أريقت على أرض مصر في معركة الانقلاب على السلطة الشرعية التي اختارها المصريون بمحض إرادتهم لأول مرة ستذهب سدى؟! وهل يتصور أحد أن نحيب وصراخ الأطفال والنساء على ذويهم الذين جرفت جثامينهم -بعد قتلهم- الجرافات ستذهب سدى؟! وهل يتصور أحد أن دعوات المظلومين والمكلومين البسطاء التي لم تتوقف آناء الليل وأطراف النهار ستذهب سدى؟!
تزخر الثقافة المصرية بقصص لعنة الفراعنة، وليست لعنة الدماء بأقل منها، أضف إلى ذلك لعنة المال الحرام الذي تغتصبه السلطة جهازا نهارا من أصحابه الذين اكتسبوه بعرق جبينهم، ثم يصادر منهم، ولا يسمح لهم باقتطاع ما يقيم حياتهم، ويكفي علاجهم، وتعليم أطفالهم. حدث هذا ولا يزال يحدث في بر مصر، دون أن يجد الإنكار الكافي ولو بالقلب الذي هو أضعف الإيمان، بل تجد من يبرر للظالمين ظلمهم ونهبهم لهذا المال الحرام، وإدخاله في ميزانية الدولة، وهو ما ينشر فيروس الخراب والبلاء فيها.
يقول بن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب".
ويضيف: "ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وخصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران".
ما يمر به الشعب المصري من أزمات صعبة ليس مجالا للسخرية أو الشماتة، لكنه يستوجب تضافر الجهود للإنقاذ، وأولى الخطوات رفع الظلم، وإعادة الحقوق لأهلها، والحكم بالعدل بين الناس، وإنقاذ أرواح من ينتظرون الإعدام بأحكام هزلية وفي اتهامات هزلية، وإطلاق سراح المعتقلين الأبرياء، ورد أمانة الحكم إلى صاحبها وهو الشعب، ليقرر ماذا يريد، ومن سيختار بمحض إرادته، وقبل ذلك كله طلب الرحمة والمغفرة من الغفور الرحيم.. "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا".
قد يسخر البعض من الحديث عن لعنة الدم والمال الحرام، ويوردون أمثلة لمعاناة شعوب أخرى لم تمر بهذه المظالم، ولكن هؤلاء يتغافلون أن الله جعل لكل شيء سببا فأتبع سببا، وقد لا تكون الأسباب واحدة، فلكل أزمة أسبابها، ولا يجادل أحد في أن هناك أسبابا مادية للأزمات من سوء تخطيط وتدبير، وفساد ونهب.. إلخ، لكن ما ذكرناه من أسباب لا يقل أهمية عنها، يقتنع بها "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون".
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق