جدوى نظام الطبقات (2)
حوارات الدين والطب و السياسة
قلت: لكن كلمة الطبقات أصبحت كلمة كريهة ومستفزة لنفوس المصريين.
قال: هم أحرار.. إذا أرادوا التقدم الحقيقي فعليهم بالدواء حتى لو كان طعمه مراً.. وإذا أرادوا الطعم الحلو فعليهم بالحلاوة الطحينية.
قلت: وماذا تفعل في الذين يعشقون الحلاوة الطحينية؟
قال: هي لهم وهم لها.. أما التقدم فشيء آخر.
قلت: وهل يمكن لنا أن نعيد الإيمان بنظام لا نكف عن رجمه؟
قال: هذه هي مهمة السياسيين الشرفاء.
قلت: فإن افتقدناهم؟
قال: فلا داعي للتقدم من أساسه.
قلت: لكن الوعي بهذه الأهمية ضعيف.
قال: وهل أدل على ذلك من أنك نفسك لم تشخصها مع أنك في منتهى الوعي بها.
قلت: والأضعف من هذا الوعي هو إمكان الإيمان بجدوى علاج كهذا.
قال: رجعنا إلى الحلاوة الطحينية.
قلت: دعني أتخابث عليك وأسألك ومَنْ يأكل الحلاوة الطحينية إذاً؟
قال: أهل السجون.
قلت: إن المفارقة أن مجتمع السجون هو المجتمع الوحيد في مصر الآن الذي يأخذ بنظام الطبقات.
قال وقد أعجبته لمحة البديهة الحاضرة: إذا صح كلامك فلن تجد حلاوة طحينية في هذه السجون التي تحترم نظام الطبقات.
قلت: وما أدراك؟
قال: لا يستقيم هذا مع ذاك.
قلت: إني أفهم فكرتك لكني لا أراها الحل الوحيد.
قال: وأنا أعرف ذلك، ولولا هذا لنبهت إليها في كتاباتك وأحاديثك.
قلت: إني أقدم بدائل أكثر عملية.
قال: هي حبوب متناثرة.. لكنها لا تقوم مقام نظام متكامل له مزاياه وأصوله وفصوله.
قلت: وله عيوبه.
قال: دعني أيضًا أرد عليك بألفاظك، ودعني أستعمل تعبيرك المفضل الذي تكرره كثيرًا من أنها العيوب الصغيرة التي تلازم المزايا الكبيرة.
قلت: أتعتقد أننا قادرون على مثل هذا النظام بصرامته؟
قال: لم لا نفعل؟
قلت: يستغرق وقتا.
قال: لم لا نبدأ؟
قلت: الناس متعجلة على النتائج.
قال: سرعان ما تظهر.
قلت: لكنهم يرضون بالمسكنات.
قال: وهم يعرفون أنها مسكنات.. ومعنى هذا أنهم يتمنون شيئا آخر.
قلت: الوعي غائب، والاقتناع مفتقد، والأمل ضعيف.
قال: كل هذا يذوب كما يذوب الثلج في حرارة الشمس.
قلت: وما حرارة الشمس؟
قال: عندما يرون زهو الطبقية ومزاياها، ألا ترى إلى انبهار الجماهير بما يرون من مسلسلات أو أفلام تصور العصر البائد؟
قلت: أري.
قال: ففكر في ضوء رأيي، وحاول التخلي عن معتقداتك التي ورثتها من عهد مؤلم، واستحضر في ذهنك دائما صورة البلاد التي عشت فيها وأحببتها ولازلت تحدثنا عنها في كل حين.
قلت: أستحضرها.
قال: يبدو لي أنك إنما تستحضر ذكراك عن الصورة دون أن تستحضر الصورة وما فيها.
قلت: لكن الفارق بين الظروف هنا وهناك كبير.
قال: رجعنا لكلام الساسة الشعبيين، هذا الحديث هو بداية الانحدار.
قلت: بل هو بداية الاندحار.
قال: ما دمت تعرف هذا فما يبقيك في معسكر التهاون؟
قلت: الخوف من القفز بالجماهير.
قال: أنا لا أطلب القفز ولا أتحدث عن الجماهير.
قلت: تقصد أنك لا تستهدف إلا شريحة معينة؟
قال: وهذا هو جوهر الطبقات.
قلت: وفكرة المساواة.
قال: إن الشريحة المستهدفة بالرقي كفيلة بالأخذ بيد المجتمع إذا ارتفعت، وهكذا تتحقق المساواة تلقائيًا في خطوة تلقائية.
قلت: لكن أحدًا لا يصدق ذلك.
قال: رجعنا لكلام الساسة الشعبيين.. مَنْ كان يصدق أن الكهرباء تضيء بلمسة، وأن التليفزيون ينقل ما ينقل، دعك من هذه الدوجمات التي أفسدوا بها عقولكم.
قلت: يبدو لي أن الأمر أكبر من أن يحتمل.
قال: لكن الأمل في الحل لا ينعقد بدونه.. وسترى.
***
كنت كثيرًا ما أجاهد في سبيل إيماني بفكرة ترقية المحيط الجامعي فكان أستاذي يشجعني وفي الوقت نفسه فإنه كان حريصًا على أن يحميني مسبقًا من الإحباط، وقد حدث ذات مرة أن وصل بي الأمر إلى العصبية المفرطة من أجل إقناع إحدى لجان الكلية بفكرة معينة، فإذا بأستاذي بعدما سمع من أحد الزملاء قصة حواري الحاد يسأل عني حتى وجدني أمرّ مع زملائي في الرعاية المركزة فقال : إنه يتحدث من عيادته الخاصة بالتليفون ، وإنه يطلب إلىّ أن أمر عليه ، ويؤكد علىّ ألا أعود إلى القاهرة إلا بعد المرور عليه للأهمية القصوى، وذلك من دون أن يحدثني عن الموضوع الذي سيحدثني فيه، ولما أخبرته أني لا أنوي العودة قبل منتصف الليل قال: فتعال إذًا الآن مادام عندك وقت في الزقازيق تقضي فيه برامجك الأخرى.
وذهبت إليه لتوي فلم يفتح لي موضوعًا ولم يخبرني بما وصل إلى مسامعه عن احتدادي في اجتماع ذلك اليوم، وإنما طلب إلىّ أن أجلس ثم قال لي: يا محمد.. خطر في بالي اليوم أن من واجبي أن أحكي لك حكاية للتاريخ شهدتها بنفسي ربما تطلعك على حقيقة من حقائق التقدم، ثم تدفق في رواية أن أحد أعمامه كان مهندسا وصل إلى منصب وكيل وزارة الأشغال فيما قبل الثورة، وهو منصب كبير جداً، وأن هذا العم كان ـ على حد تعبيره ـ فلاحا حقيقيا، لكنه كان مع كل خطوة يخطوها في السلك الوظيفي يرتقي بسلوكه الحضاري في كل ما يتعلق بالحياة حتى وصل به الأمر إلى أنه كان له جدول فني لحضور حفلات الأوبرا والغناء، فإذا كان الخميس الأول من كل شهر فإنه يلبس ملابس رسمية ويتأهل لحضور الأوبرا لا يحول بينه وبينها أي عذر، وهكذا كان يفعل في الخميس الثاني في حفل آخر، وهكذا. وأخذ أستاذي يقص علىّ طبائع «الباشوات» الحقيقيين، وكيف أنها في الحقيقة طبائع قابلة للاكتساب، بل إنها لا تأتي إلا بالتدريب وبالتدريب الشاق أحيانا، وبالالتزام المفرط في كل التفصيلات.
ولم يكن أستاذي يسمح لي طوال حديثه أن أقاطعه، بل كان برفق شديد يضع يده على فمي كلما هممت بالكلام، فلما انتهى من حديثه التفت إلىّ وقال: لست أدري هل أقول لك لا تتعب نفسك حتى لا تكون آراؤك بمثابة حرث في البحر، أم أقول لك: واصل الطريق.. ولكني على كل حال أبرأت ذمتي بأن رويت لك صورة من صور العهد «البائد» كما يسمونه، وكان لابد لي من أن أبرئ ذمتي بعدما سمعت عما حدث لك اليوم، ولكن على كل حال خذ بالك من نفسك!!
لم أكن قد أدركت لماذا يروي لي أستاذي هذا كله إلا متأخرا حين أشار إلى الاجتماع الذي انعقد في ذلك اليوم ، ولهذا السبب فإنه لم يكن يريد لي أن أقاطعه برواية ما حدث لأنه كان يعرف ما حدث بالفعل.
***
يقودني هذا إلى العودة إلى ما كان أستاذي يعبر عنه من حزن شديد ومرارة أشد من وصف الثورة للعهد السابق عليها بالعهد البائد، وكان لا يفتأ يكرر هذا الوصف بكل سخرية ومرارة وتعجب، وحدث ذات مرة بعد مطلع القرن الحادي والعشرين بسنتين أن صرح مسؤول كبير أمام أحد المجالس النيابية بأن الحكومة الحالية تحاول «إصلاح أخطاء خمسين سنة»، وكان هذا في حد ذاته اعترافًا جريئاً، لكن أستاذي عقب على هذا التصريح بقوله: إنه كان يلزمه تغيير كلمة واحدة ليضع «جرائم» بدلا من «أخطاء».
والواقع أن أستاذي كان مغرمًا بالسخرية من كل مَنْ تسول له نفسه أن يصور بدايات الأمور على عهده هو ملغيا كل ما سبقه، وهو الخلق الذي شخص كثير من المؤرخين بداياته بأنها تعود إلى عهد الفراعنة.
وكان يفعل هذا (أي السخرية) حتى مع بعض موظفي مكتبه وهو وكيل للكلية حين كانوا يشيرون إلى نظام سابق يعتقدون أنه كان خاطئا وأن أستاذي هو الذي أصلحه، وكانوا عندئذ يقولون له ما يقوله الموظفون التقليديون في مثل هذه الظروف من أن القواعد كانت تقول بكذا إلى أن أصلحها سيادته أو عدلها فجعلها تقول بكذا، فإذا به في هدوء شديد يرد عليهم ويقول: تقصدون أن هذا كان أيام الجاهلية، وكأنه كان بهذا التصرف يحثو التراب في وجوههم على حد ما يقول التعبير العربي القديم.
ولم يكن يخفى على أي لبيب أنه كان يسخر من النفاق الزائد بطريقة مهذبة، وكذلك كان يفعل في كل ما يعرضه أي طبيب منا ناسبا الفضل إلى الوضع الجديد، فإذا أشار الطبيب إلى أن المريض كان يتعاطى أدوية خاطئة قبل أن ينتقل إلى قسمنا ويتعاطى الدواء الصحيح، كان أستاذي يعلق في التو واللحظة بأن هذا الخطأ كان في أيام الجاهلية، ولم يطل بنا الزمن لنعرف أنه كان يسخر بشدة من دون أن يبدو ساخراً، وهكذا كان يحدثني في كل أمر من الأمور التي يظن صغار أولى الأمر أنفسهم وقد أصلحوها بينما هم يفرطون في الادعاء بالإصلاح بلا مبرر.
وكنت إذا وقفت في طريق سيرنا (بالسيارة أو على الأقدام )لأستطلع رأيه فيما أعتقد أنه آية من آيات الفن المعماري أو الإنشائي شكرني على هذا التوقف، وزادني علمًا بما في القطعة الفنية من جمال أدركه هو ولم ألتفت إليه، ثم استدرك متحسرًا على تراثنا الذي ضيعناه ولا نزال نضيعه، وهو يعجب من أمرنا.
وقد وصل به الأمر في ذلك إلى أن سألني ذات مرة: هل قرأت عن شعب فعل في تراثه ما نفعله الآن؟
قلت: لا.
قال: يا محمد، إنني أظن ما اتهم به التتار والمغول يهون أمام ما نفعله الآن، فعلى كل حال كانت مبررات الحروب تقتضي ما يفعلونه إن صح أنهم فعلوه، ولكن ماذا يكون عذرنا أمام التاريخ؟! ثم كان يستطرد في هذا المعنى إلى أن يقول: إنه حتى «الإعدام» لا يمكن إلا أن يكون عقوبة مخففة على أولئك المسؤولين عما حاق بحياتنا وقيمها من تدمير في السنوات الخمسين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق