هل سيكون عاما جديدا من الجنون (2) جنون النخبة العربية
إنه لأمر مرعب حقًّا أن تستمر حالة الجنون التي تسود المشهد العربي منذ عقود، لما لها من آثار فادحة على حاضر الأمة ومستقبلها، وما ستؤدي إليه من مضاعفة معاناة الطبقة الكبرى من الشعوب العربية التي كُتب عليها دائمًا أن تدفع ثمن هذا الجنون من دمها وآلامها وأحلامها المحطمة.
تناولنا في المقال السابق مظاهر هذا الجنون على مستوى الأنظمة العربية الراهنة البعيدة كل البعد عن مسؤولياتها التاريخية تجاه شعوبها وأمتها، وبدلًا من أن تأخذ بيدها لتنهض بها، فإنها تذيقها الويلات في صراعات طاحنة، وأزمات متلاحقة، ومتابعات أمنية لا تنتهي.
هذه الحالة الجنونية العبثية انعكاس لأزمة فكرية متجذرة تحتاج إلى من يدرسها ويحللها ويحدد أسبابها وسبل معالجتها، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بواسطة طبقة النخبة العربية التي تعيش حالة من الجنون والاضطراب تزيد من خطورة جنون السلطة، ومن فداحة آثارها.
أدى استشراء جنون السلطة وهيمنتها الاستبدادية وتغلغلها الأمني القمعي في التفاصيل كافة إلى دخول النخب العربية في حالة موازية من الجنون، مبتعدة عن دورها الرئيس في التوجيه الصادق والأمين لحركة المجتمع.
النخبة العربية ومظاهر جنونها
المقصود بالنخبة الطبقات المجتمعية المؤثرة في حركة الدولة والمجتمع وتوجهات الأفراد، وفيما يأتي أمثلة لأبرز هذه الطبقات وأبرز الفئات التي تنضوي تحتها:
- النخبة السياسية: وتضم الكوادر الحزبية وأعضاء البرلمان والناشطين السياسيين والقوى السياسية.
- النخبة الاقتصادية: وتضم رجال الأعمال والتجار ونقابات الوظائف التخصصية والعمال.
- النخبة القانونية والتشريعية: وتضم القضاة والمشرعين والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
- النخبة الدينية: وتضم علماء الدين والدعاة والخطباء.
- النخبة الإعلامية: وتضم مالكي المؤسسات الإعلامية ومديري المحتوى والمنتجين والمذيعين والمحررين والصحفيين والمراسلين.
- النخبة الثقافية: وتضم الكتاب والمؤلفين والفنانين بمختلف تخصصاتهم.
- النخبة الفكرية: وتضم الفلاسفة والمفكرين والخبراء والمختصين.
- النخبة الأكاديمية: وتضم أساتذة الجامعات والباحثين ومديري مراكز البحوث والدراسات.
- النخبة الاجتماعية: وتضم الأعيان والشيوخ وزعماء القبائل، ومن في مستواهم.
- النخبة المدنية: وتضم رؤساء مؤسسات المجتمع المدني؛ الأهلية والإنسانية والحقوقية والإغاثية.
وقد أدى استشراء جنون السلطة وهيمنتها الاستبدادية وتغلغلها الأمني القمعي في التفاصيل كافة إلى دخول النخبة في حالة موازية من الجنون، مبتعدة عن دورها الرئيس في التوجيه الصادق والأمين لحركة المجتمع، وتتجلى أبرز مظاهر هذه الحالة فيما يأتي:
- الانزواء: حيث دخلت طبقات النخبة وفئاتها كافة ومعظم أفرادها الذين تحت عباءة السلطة، لتصبح جزءًا من جنونها، تحت ضغط الإغراء والمصالح الذاتية والأنانية الشخصية.
- الانطواء: معظم الأقلية التي لم تحتمل الانزواء تحت عباءة السلطة فضلت الانطواء على نفسها، والانكفاء على يأسها، تجنبًا لغضب السلطة، وممارساتها الأمنية التي تتابع أخبارها يوميا، من تهديد وملاحقة واستدعاء واعتقال وقمع وتشهير ومساومة وإذلال.
- الهروب: حيث فضل جزء من الأقلية المنطوية التخلص من حالة الانطواء وآثاره النفسية والمادية بالهروب إلى خارج دولها، لتجد نفسها بين 4 خيارات رئيسة هي:
- الجمود والعزوف التامان الناجمان عن حالة اليأس من وجود أي سبيل لإيقاف حالة الجنون المستشرية.
- التحرك لرفض حالة الجنون، واقتراح أفكار وآليات للحدّ من آثارها، ولكن هذا التحرك يظلّ محدودًا جدا، بسبب شح الموارد المالية أحيانًا، أو بسبب سياسات السلطات المستضيفة أحياناً أخرى.
- القبول باستغلال السلطات المستضيفة، والتجاوب معها في خدمة مصالحها وأجندتها السياسية.
- الانخراط في أعمال معارضة هشّة لا تقوم على أسس، وغير قادرة على إحداث تغيير في مواجهة جنون السلطة.
إن انزواء النخبة تحت عباءة السلطة، أو الانطواء والسير باتجاه جدار اليأس والإحباط، أو الهروب لمواجهة جنون السلطة من الخارج؛ كلها سبل ستصل بنا في النهاية إلى نتيجة واحدة، هي الفشل في مواجهة جنون السلطة وتوحّشها.
الآثار المترتبة على جنون النخبة
الحالة التي آلت إليها النخبة العربية بطبقاتها وفئاتها المختلفة بسبب جنون السلطة كانت لها نتائج فادحة على الواقع العربي، فزادته جنونًا فوق الجنون، وفاقمت من تعقيدات الواقع، وزادته تأزيمًا، كما زادت السلطة تطرفًا في سلوكها السياسي والأمني، وفي مقدمة هذه النتائج:
- تسخير قدرات وطاقات العدد الأكبر من النخبة لمصلحة تعزيز جنون السلطة، والاستماتة في الدفاع عنه، وتبرير كل ما يتسبب به من كوارث سياسية واقتصادية على المستويين الاجتماعي والفردي.
- تحويل النخبة إلى ذراع ناعمة تدافع عن جنون السلطة، بما لها من امتدادات اجتماعية، وتقاطعات سياسية واقتصادية ودينية وثقافية وفكرية، وتحويل هذه النخبة إلى مجموعات متسلسلة من المنافقين والمنتفعين المنسلخين عن المجتمع والشعب.
- تشويه الوقائع وتضليل الشعب الذي يخضع لعملية حشو ذهني وفكري متواصلة، لا يستطيع معها تمييز حقوقه وواجباته.
- تركيع الشعب للسلطة، وإقناعه على الدوام بصواب الجنون الذي تقوم به، وإظهاره على أنه قمة الصواب وعين الحكمة.
- تغذية الوهم لدى الشعب باستمرار، وإظهاره على أنه حقيقة، وأن أحلامه وتطلعاته على وشك التحقق، وذلك يجعله دائم الانتظار من دون جدوى.
- سد الباب تمامًا أمام التفكير في حلول إصلاحية حقيقية قادرة على معالجة حالة الجنون التي تعتري السلطة.
- تعميق الإحساس لدى السلطة بصوابية ممارساتها الجنونية، وعدالة ممارساتها القمعية، وقانونية انتهاكاتها الأمنية، ونبل استبدادها واستحواذها.
- استعداء مكونات الشعب ضد بعضها بعضًا، وتحويل المجتمع إلى ساحة مثالية للنشاط الأمني، تحت دعاوى الحفاظ على السلطة، وتعزيز الاستقرار، وإحباط العمليات الإرهابية، والمؤامرات الخارجية، بغض النظر عما يتركه ذلك من كوارث اجتماعية.
- تجميد النخبة المنطوية، التي لم تخضع لإغراء السلطة، ونأت بنفسها عما يجري حولها، ووجدت في الصمت مأمنًا لها من معاداة السلطة، ووقوعها تحت وطأة ملاحقاتها واضطهادها. هذا التجميد يعني فقدان الدولة والشعب لرصيد هائل من الخبرات المتراكمة والكفاءات العالية القادرة على تقديم أفكار إبداعية لإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة جنون السلطة.
- تحويل النخبة الهاربة إلى عناصر مشردة تتقاذفها الأمواج السياسية العاتية خارج الدولة، حيث يتم تطويعها لأجندات الخارج التي تمدّ لها يد المساعدة التي هي في أمس الحاجة إليها.
هذه الحالة التي تعيشها النخبة العربية في زمن جنون السلطة الذي تشهده المنطقة تجعل المشهد شديد القتامة في طريق البحث عن مسارات للتحرك للعثور على حلول وآليات آمنة لمواجهة جنون السلطة. ومع ذلك، فإن الانزواء تحت عباءة السلطة، أو الانطواء والسير باتجاه جدار اليأس والإحباط، أو الهروب لمواجهته من الخارج؛ كلها سبل ستصل بنا في النهاية إلى نتيجة واحدة، هي الفشل في مواجهة جنون السلطة وتوحّشها.
وهذا يعني أن على أصحاب الضمائر اليقظة والصادقة من النخب المنتمية للأمة، على المستويين الوطني والقومي، البحث عن طرق ووسائل بديلة، تحقق لها النجاح التدريجي في مواجهة هذا الجنون، وتضع السياسات التي تضمن هذا النجاح، من أجل ترسيخ التصالح وتفكيك تروس الخطاب العدائي، وطمأنة السلطة، واجتثاث جذور الخوف والقلق التي تستثير جنونها.
والسؤال الذي سيطرحه القارئ وجميع المهتمين بهذا الأمر، حتى لا يبدو الطرح ضربًا من العبث أو الترف الفكري: إذا كانت القضية على هذا النحو من الانسداد، فما السبيل إلى ذلك؟ وكيف تكون البداية؟ ومن الذي يملك زمام المبادرة؟ وهل تملك البقية الباقية من النخبة القدرة على القيام بهذه المهمة؟ وما الوسائل والآليات والسياسات التي تساعدها على القيام بذلك؟ وكم تحتاج من الوقت؟
(يتبع: في مواجهة الجنون)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق