هل سيكون عاما جديدا من الجنون؟ (1)
- ما زالت الأنظمة السياسية تستمد مشروعيتها من الخارج بدلا من الشعوب
عندما أراد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن يبرز مكانة العقل والفلسفة في عصره، وصف الشعب بأنه مثل سفينة المجانين التي تحتاج إلى ملك فيلسوف يملك العقل والحكمة ليقود هذه السفينة، وها هو عام جديد يبدأ من عمر الأمة العربية التي تسير في سفينة الجنون منذ عدة عقود، تنتظر قادة حكماء ليقودوها إلى برّ الأمان، قادة لا يخضعون لأهوائهم وأمزجتهم، ووساوس بطاناتهم، وإملاءات داعميهم، فالجنون لم يترك ثقبا إلا دخل فيه.
والأكثر جنونا من ذلك، أن الأمة تعرف تفاصيل هذا الجنون، وتعرف كيف تتخلص منه، ولكنها تصرّ على الاستمرار فيه، وكأنه مصدر راحتها وسعادتها. جنون سيطر على جميع الفئات والشرائح، وامتد إلى شتى المجالات، من السلطة إلى النخبة إلى المجتمع والأفراد، ومن التعليم إلى الإعلام إلى الثقافة والفكر…، فهل سيكون هذا العام امتدادا لحالة الجنون هذه؟ أم سيشهد انطلاق عملية الاستشفاء، واستئصال هرمونات الجنون تمهيدا لقيادة العقل إلى القيادة، وسيادة الحكمة؟
إن ما تقوم به السلطات الحاكمة ضد شعوبها لا يعزز أركان النظام
ولا يطيل بقاءه في السلطة، وإنما يزيد من تضخيم القوى الأمنية وتفاقم قدراتها وتوسيع صلاحياتها، بما يهدد مستقبل النظام ويعجّل في تآكله التدريجي خلال فترة قصيرة.جنون السلطة
تمارس السلطات العربية على اختلاف أنواعها وأشكالها ومستوياتها، الشمولية منها والديمقراطية، الوراثية منها والرئاسية والانقلابية، المدنية منها والعسكرية؛ سلوكيات حادة من الجنون السياسي والاقتصادي والاجتماعي، رغم الخبرات التاريخية الطويلة المتراكمة لديها حول إدارة السلطة وواجباتها وتحدياتها، خبرات حديثة وقديمة، ممن سبقها في أوطانها، أو ممن يحيط بأوطانها، أو مما يحدث حولها في العالم من الدول المتقدمة أو النامية. رغم هذه الخبرات الطويلة، فإن السلطات العربية تأتي في كل مرة ممتطية عنجهيتها وعنفوانها وجبروتها وطيشها، غير مكترثة بهذه الخبرات، ولا ترى العالم إلا من ثقب باب أحلامها الوردية التي لا مكان لها فوق فوّهة براكين العالم وحممها المتفجرة.
ورغم فداحة النتائج والآثار التي تدفعها الأمة العربية، ورغم قسوة الآلام التي تعانيها شعوبها، فإن دوامة الجنون لا تزال مستمرة في الدوران، تأبى أن تنتهي. ومن أبرز مظاهر هذا الجنون:
ما زالت الأنظمة السياسية تستمد مشروعيتها من الخارج، بدلا من الشعب الذي تقوم بتضليله، ثم تقسيمه، ثم تسليط القسم الموالي لها على بقية الأقسام. وبدلا من أن تعمل على توفير المناخات الملائمة للإبداع والإنتاج والتطوير، توفّر المناخات الأمنية والقمعية والتصفوية، باستخدام كافة الطرق والأساليب، وكأن الشعوب تتصرف في متاعها كيفما تشاء.
في حين أن أمام السلطات الحاكمة الفرصة لاكتساب تأييد الشعب لها عن طريق القيام بواجباتها تجاهه، وتمكينه من حقوقه، والاعتراف بكافة مكوناته الوطنية، بمختلف أطيافها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، وتحقيق المصالحة والتوافق فيما بينها، وفقا لأحكام الدستور والقانون، بما يحقق أهداف الدولة الوطنية ومصالحها العليا، وبما يعزز السلطة الحاكمة ويقويها، ويساعدها على مواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية. أكثر من نصف الدول العربية ما زالت تعاني من إشكالات داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، أوقعتها تحت عربدة القوى الغربية، والارتهان لمؤسساتها الدولية التي لا تملك لها أي حلول جذرية، بل مزيدا من الأزمات المستقبلية بفعل القروض والقيود.
بينما يكمن الحل في تحقيق الانفراج السياسي الداخلي، وإنهاء التوحش ضد المواطنين وأسرهم وأعمالهم وأموالهم ومؤسساتهم ومصالحهم، الأمر الذي سيؤدي إلى تنفيس الاحتقان، وتشجيع رؤوس الأموال والقوى الداخلية المنكمشة، والقوى المهاجرة المنتظرة؛ لضخ رؤوس أموالها وإحياء أعمالها وتوسيع مشروعاتها. بعض هذه الدول تحاول معالجة أزماتها الاقتصادية عن طريق القروض المتواصلة التي تزيد من عجزها عن السداد عاما بعد عام، أو عن طريق إنعاش الاقتصاد من خلال السياحة والمشروعات الترفيهية، بدلا من التوجه للصناعة والإنتاج بمواصفات منافسة، والاعتماد على الذات لسد الاحتياجات الداخلية، وتقوية العلاقات الإقليمية والدولية لفتح أسواق جديدة لفائض إنتاجها، وتحفيز الطاقات الإبداعية لتطوير العلوم والصناعة والإنتاج.
10 دول عربية (فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن ومصر والسودان وليبيا وتونس والصومال) تشهد انقسامات سياسية حادة أو صراعات مسلحة دامية، انسدت بسببها شرايين الحياة فيها، وتفاقمت معها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والنفسية والتعليمية. توقف فيها الحاضر على عتبات الماضي بعد أن فقد أمله في المستقبل، وتعيش حالة من فرط الجنون لا سابق لها، بسبب ما تؤمن به من أوهام وضلالات، وما تتبناه من سياسات، وما تقوم به من ممارسات.
لا أستطيع أن أفهم طبيعة العقل الذي قاد ويقود الصراعات المسلحة في اليمن وسوريا وليبيا والصومال، معتقدا أن هذه الصراعات ستحسم له السيطرة على السلطة إلى الأبد، ضاربا عرض الحائط بملايين الضحايا من القتلى والجرحى والمشردين واللاجئين، وغير مكترث لتدمير الدولة ومؤسساتها ومدنها وقراها ومصانعها ومزارعها ومدارسها وجامعاتها.
كما لا أستطيع أن أفهم طبيعة العقل الذي يعجز حتى الآن، في العراق ولبنان ومصر والسودان؛ عن التوصل إلى صيغ مشتركة تحقق التوافق الوطني على إدارة السلطة وبناء المستقبل. وبدلا من أن ينشغل في تقديم تبريرات واهية لهذا العجز الذي ينهك الدولة والشعب ويمنعهما من التقدم إلى الأمام ولو بضع خطوات.
ولا أفهم أيضا طبيعة العقل الفلسطيني الذي يفشل حتى الآن في توحيد صفه الوطني في وجه الاحتلال الصهيوني، ويستمرئ تضليل الشعب بالمصالحة تارة تلو أخرى، كما يستمرئ الذلة للاحتلال، ويعجز عن أن يتوصل إلى حلول سياسية مع القوى الوطنية التي تقاوم هذا الاحتلال. يستمرئ التعاون مع الاحتلال الذي أخذ أرضه وقتّل شعبه وأذاقه الأمرّين لأكثر من قرن من الزمان، ويعجز عن التوصل إلى تسوية فيما بين القوى الفلسطينية الوطنية التي يجمعه بها تاريخ نضالي طويل ومصير وطني مشترك، وتختلف معها فقط في التصورات والآليات النضالية للحاضر والمستقبل.
ولا أستطيع أن أفهم طبيعة العقل الذي يستسيغ في تونس تدمير التجربة الوطنية الديمقراطية قطعة قطعة، ويبرر لنفسه تخوين جميع من ساهم فيها من أجل إعادة بناء حكم شمولي استبدادي جديد، أيا كان الثمن الذي ستدفعه تونس والشعب التونسي.
إنه الجنون ولا شيء غير الجنون.
تعمد العديد من الأنظمة العربية إلى تعزيز أركانها بالموالين لها، وخاصة في قطاعات الأمن والقضاء والإعلام، وهي تعلم أن هؤلاء مرتزقة لا يهمهم سوى مصالحهم، وسبق لهم أن داهنوا غيرها من الأنظمة من قبل. فأي جنون يقف خلف هذه الممارسات، وهو يظن أنه بذلك يحقق الاستقرار ويحافظ على أركان الدولة من الانهيار.
الهاجس الأكبر لدى السلطات العربية هو تأمين بقائها في الحكم، ولذلك تضع البعد الأمني الداخلي بأجهزته وقياداته على رأس الأولويات، لتزداد بطشا وتوحشا، وليزداد معها الوضع الداخلي توترا واحتقانا وتأزما وانسدادا، في حين أن الأمر لا يحتاج أكثر من الانفتاح الصادق على الشعب ومؤسساته، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم الدستورية دون خوف أو تضييق أو إرهاب أو تضليل.
إنّ ما تقوم به السلطات الحاكمة ضد شعوبها لا يعزز أركان النظام، ولا يطيل بقاءه في السلطة، وإنما يزيد من تضخيم القوى الأمنية، وتفاقم قدراتها وتوسيع صلاحياتها، بما يهدد مستقبل النظام ويعجل في تآكله التدريجي خلال فترة قصيرة. تعمد العديد من الأنظمة العربية إلى تعزيز أركانها بالموالين لها، المستعدين (شكليا) للتضحية من أجلها، لا من أجل الوطن والشعب، وخاصة في قطاعات الأمن والقضاء والإعلام. والنظام يعلم أن هؤلاء مرتزقة، لا يهمهم سوى مصالحهم، وسبق لهم أن داهنوا غيره من الأنظمة من قبل. فأي جنون يقف خلف هذه الممارسات، وهو يظن أنه بذلك يحقق الاستقرار ويحافظ على أركان الدولة من الانهيار.
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أجرت مؤسسة "استشارة الصباح" (Morning Consult) استطلاعا للرأي في 22 دولة، حول موقف الشعب مما إذا كانت بلدانهم تسير في المسار الصحيح أو الخطأ. ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا وكوريا الجنوبية واليابان وبولندا وبلجيكا، وكان متوسط النتيجة لهذه الدول أن 75% يعتقدون أن دولهم تسير في المسار الخاطئ، و25% يعتقدون أنها تسير في المسار الصحيح، رغم أن شعوب هذه الدول تتمتع بكافة الحقوق والامتيازات والضمانات، وشتى أسباب الرفاهية، ولا يتعرضون للتهديد الأمني ولا مصادرة الحريات، ولا المنع من التعبير، ولا الاعتقال التعسفي، ولا القتل أو الخطف والتغييب، وتتغير حكوماتهم بحسب الدورات الانتخابية ونتائج الانتخابات، دون أن يهتز الاقتصاد أو ينهار الجيش أو تسقط الدولة بيد أعدائها.
فإلى متى ستظل السلطات العربية في دوامة الجنون هذه، وهل يكون هذا العام خيرا من سابقاته؟
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق