أحلام التغيير والإصلاح في العام الجديد
كانت بداية الربيع العربي من تونس
ككل عام يعبّر الكثيرون عن أمنياتهم وتوقعاتهم للعام الجديد، تختلط الرغبات بالحقائق في ما يُسمى التفكير الرغائبي، الذي يتحدث فيه البعض عن أمنياتهم وكأنها حقائق مؤكدة الحدوث، لا غضاضة أن يعبّر الناس عن أحلامهم وأشواقهم وأمنياتهم المستقبلية، فأحلام الأمس هي حقائق اليوم، وأحلام اليوم ستصبح حقائق الغد، ومن لا يعيش على حلم فلا مستقبل له، والسياسة لا تعتمد فقط على التفكير البراجماتي، أو ما يُسمى الواقعية السياسية، فالركون إلى تلك الواقعية وحدها يُنتج وقوعا واستسلاما لموازين القوى المختلة التي لا تسمح بحدوث تغيير، لكن التمسك بالحلم، وامتلاك إرادة التغيير، وبذل الجهد الممكن في هذا الطريق، يُنتج في النهاية تغييرا حتى لو طال الزمن، وحتى لو تضاعفت التضحيات.
في مثل هذا الشهر (يناير/كانون الثاني) قبل 12 عاما، تحولت الأحلام إلى حقائق، ظلت العديد من الشعوب العربية تحلم بالحرية والديمقراطية، وإلى جانب الحلم كانت الحركة والتضحيات، فجاءت النتيجة تحققا للحلم في الموجة الأولى لثورات الربيع العربي التي شملت تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ثم شملت موجتها الثانية الجزائر والسودان، ونسبيا العراق ولبنان، ووصلت رياحها إلى المغرب وموريتانيا والأردن إلخ.
أحلام لا تموت
صحيح أن تلك الأحلام التي تحولت إلى واقع في بعض البلدان سرعان ما انهارت تحت وقع ضربات الثورات المضادة وانقلاباتها، التي امتلكت من الإمكانيات والقدرات ما لم تمتلكه قوى التغيير والإصلاح، لكن المؤكد أن جذوة الأحلام لا تزال متقدة تحت الرماد “أرى تحتَ الرمادِ وميضَ نارٍ ويوشكُ أن يكونَ له ضرام”. هذه الجذوة تتسع مع الوقت، وتجد مَددها في السياسات التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية التي استولت على الحكم قهرا، وتواصل قهرها لشعوبها عبر سياسات التجويع والاقتراض والتنازل عن السيادة الوطنية، والتفريط في المصالح القومية، ثمنا لبقائها على مقاعد السلطة، ورضا كفلائها عنها.
عشر سنوات مرت على انتكاسة الربيع العربي، لكن قوى التغيير رغم ضعفها وقلة إمكانياتها وانفضاض الدعم الإقليمي عنها، فإنها لم ترفع الراية البيضاء، بل ظلت متمسكة بحلم الحرية والكرامة والديمقراطية، فهو ليس محض حلم خيالي ولكنه حق أصيل للشعوب، وقد لامسته يوما، وذاقت طعمه، “ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف” كما يقول أهل التصوف.
مع دخول العام الجديد، تتجدد الآمال في تحقق الحلم، وتتسع رقعة الحالمين بالتغيير، مع انكماش رقعة داعمي الاستبداد الذين تعرضوا للتضليل السياسي والإعلامي من قبل، ومع انكشاف الكثير من الحقائق التي ظلت محجوبة عنهم، بل مع مشاهدتهم بأعينهم لخيانة الأوطان، وتضررهم المباشر من سياسات الإفقار والتجويع والاقتراض، التي تدفع الكثيرين منهم إلى البحث عن طريق للهجرة سواء بشكل شرعي أو غير شرعي.
محطات مفصلية
في العام 2023، هناك محطات مفصلية في بعض الأقطار، التي ستنعكس التغيرات فيها على غيرها من دول الجوار، خذ مثلا الانتخابات التركية منتصف العام، التي فتحت الاستعدادات المبكرة لها أبوابا ظلت مغلقة لسنوات بين أنقرة والعديد من العواصم العربية وغير العربية، بهدف تصفير المشاكل معها، ولجني ثمارها في الانتخابات، فكانت المصالحة التركية الإماراتية والسعودية والمصرية والإسرائيلية، وقد سبقتها المصالحة الخليجية مع قطر، وخلال العام الجديد ستحدث المصالحة الأكثر أهمية مع النظام السوري، بما يتبعها من عودة المهجرين السوريين في تركيا، وهو ما يخفف الاحتقان الداخلي في تركيا الذي توظفه المعارضة للنيل من الرئيس أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة.
لا شك أن المصالحات التركية مع تلك العواصم تنعكس سلبا على قوى التغيير والديمقراطية العربية، لكن تلك القوى لا تعتمد بشكل كامل أو أساسي على دعم تركي أو غير تركي، بل إن قواعد تلك القوى موجودة داخل بلدانها، ولا يمكن قتل أحلامها، ولو طال الزمن، ولو تخلت عنها الدنيا كلها.
لكن الانتخابات التركية ستترك آثارا متباينة حسب الفائز بها، سواء كان أردوغان وحلفه، أو تحالف المعارضة، وتنتظر بعض الساحات تلك النتائج، خاصة الساحة السورية، والساحة الليبية التي لا تزال تتأرجح حول قبول فكرة انتخابات رئاسية وبرلمانية تصنع مشهدا سياسيا جديدا ومستقرا، وستكون الأجواء مهيأة للتقدم نحو تلك الانتخابات الجديدة عقب الانتخابات التركية وفي ظل تطور العلاقات التركية المصرية أيضا.
طموحات العام الجديد
من المرجح أن يشهد العام الجديد تزايد وتيرة الحراك السياسي في مصر استعدادا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سيحل موعدها في العام 2024، وكذا في تونس خاصة بعد المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات التي دعا إليها الرئيس قيس سعيّد، وهو ما فتح الباب واسعا لمطالبات بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهي الدعوة التي تتسع يوما بعد يوم وتكتسب أنصارا جددا، وقد منح دخول الاتحاد العام التونسي للشغل على الخط تلك التحركات زخما كبيرا.
الأوضاع في اليمن تنتظر توافقا خليجيا إيرانيا، وربما تسهم الضغوط المتزايدة على إيران في الملف النووي والانشغالات الخليجية بملفات داخلية في قبول الجميع لحلول توافقية في اليمن، لكنها لن تكون مُرضية في الغالب لتطلعات اليمنيين، وقد يجد اليمنيون أنفسهم مضطرين إلى الجلوس معا بعيدا عن الرعاة الإقليميين لكل طرف (المنشغلين بهمومهم) للوصول إلى تسويات ولو مؤقتة.
أما الوضع في السودان فهو الأكثر عرضة لتحولات مهمة بعد توقيع الاتفاق الإطاري الذي وضع نظريا نهاية لحكم العسكر، ونقل السلطة للمدنيين وفقا لخارطة طريق تضمّنها الاتفاق، لكن رفض قوى وازنة لهذا الاتفاق سيجعله عرضة للمزيد من التعديلات، أو ربما التوصل إلى اتفاق جديد أكثر شمولا وقبولا خلال العام الجديد.
حين اندلعت ثورات الربيع العربي قبل 12 عاما كانت فعلا شعبيا محليا، ولم تكن صناعة أجنبية كما ادعت أبواق الثورة المضادة، وطالما وُجدت أسباب الغضب التي فجّرت تلك الثورات من قبل، وطالما وُجدت إرادة التغيير، وطالما ظل الحلم قائما، فإن التغيير قادم سواء في 2023 أو بعده، فدوام الحال من المحال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق