الاثنين، 9 يناير 2023

الكهنوت الرئاسي: الزعيم البطريرك

 الكهنوت الرئاسي: الزعيم البطريرك

وائل قنديل


لا يمكنك أن تتحدّث عن دولة مدنية حقيقية وأنت تستعمل الدين سيفًا لإخضاع الجماهير وإسكاتها عن المطالبة بحقوقها السياسية والاجتماعية، كما لا يستقيم أن تعلن دومًا عدم التهاون مع أي عناصر تخلط بين الدين والعمل، ثم تحترف الاتّجار بالنصوص الدينية في التسويق السياسي.
في الحالة المصرية، كانوا وما زالوا يردّدون أنهم أطاحوا الديمقراطية الوليدة من أجل حماية مدنية الدولة، وأسقطوا الرئيس المنتخب بالانقلاب العسكري عليه بزعم خضوعه لمرجعية دينية، وقتلوا آلافًا من المواطنين بحجّة أنهم يستعرضون نموذجًا لدولة دينية في الميادين التي يعتصمون بها.
الحاصل أن الحاكم لا يكتفي بسلطاته السياسية المطلقة على مؤسّسات الدولة، الأمنية والإدارية، فيوسّع النطاق ليحصل على سلطة روحية إضافية معتمدًا على المؤسسات الدينية، وبالأخص الكنيسة المصرية التي تستجيب، بشكل عجيب، للاستدراج السياسي، فتُقحم نفسها في أمورٍ تجعلها جزءا من حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، على نحوٍ يثير القلق عليها وعلى السلم الاجتماعي حال غروب شمس هذه السلطة التي لا تترك مناسبة دينية إلا وتعلن فيها تحالف السلطتين.
الأمر نفسه تجده، بدرجة أو بأخرى، في العلاقة مع المؤسّسات الدينية الإسلامية، إذ لا وظيفة لدار الإفتاء ووزارة الأوقاف الآن سوى التسويق الديني لسلطة سياسية والتبرير المستمر لإجراءاتها التي تلهب ظهر المواطن، مع الوضع في الاعتبار أن مؤسّسة الأزهر الشريف لا تزال تقاوم السقوط في الفخ ذاته، ويواجه شيخها أحمد الطيب حملاتٍ شعواء تحاول النيْل منه ومن المؤسسة.
في الاحتفال بعيد الميلاد في العام الجديد بالكاتدرائية الجديدة بالعاصمة الجديدة لما تسمّى الجمهورية الجديدة، لم يترك الجنرال عبد الفتاح السيسي الفرصة تمر من دون استغلالها في انتحال صفةٍ أبويةٍ رعويةٍ على الشعب بمفهوم الكهنوت الكنسي، فيما خرج بطريرك الكنيسة عن جوهر المناسبة لينال من الإخوان المسلمين، ويضفي قداسة على انقلاب 30 يونيو (2013)، وكأنه يردّ التحية للجنرال الذي أعدّوا له حفل استقبال مصطنع، بوصفه الزعيم المخلّص.
في سياق الاستثمار السياسي الخادش لروحانية المناسبة، أراد السيسي أن يقول للجماهير إنه للشعب مثل البابا لرعايا الكنيسة، كلاهما لديه سلطة كهنوتية مصدرها السماء، لا البشر،: "كل واحدٍ يعرف على أده، موظف، مدير، واللي بعده واللي بعده، لحد ما نوصل للي ربنا أراد أنه يبقى متولّي المسؤولية، يعني حد هيعرف، مع كامل التقدير والاحترام لأعضاء الكنيسة الآخرين زي قداسة البابا في شؤون الكنيسة، لأ، ولما جبت المثل، وأرجو أنك تعذرني قداسة البابا، اللي يتكلم إن ما كانش يعرف، وأكيد مش هيبقى عارف".
جيد أنه هذه المرة إنه تواضع قليلًا ولم يخاطب جمهور الكنيسة باعتباره الراعي الأكبر لها، قبل البطريرك المنتخب، فاكتفى بمحاكاة سلطة البابا، متحدّثًا عن نفسه بأنه وحده دون الجميع يعرف في شؤون السياسة ويفهم في فنون الإدارة، مثل حال البطريرك في شؤون الكهنوت، وبناءً على ذلك "مش عايزكم تخافوا، ربنا موجود، هيسيبنا يعني؟".
هكذا، ببساطة، انحلّت الأزمات كلها، انهيار العملة المحلية وصراخ الناس من جحيم تكاليف المعيشة، بالأحرى الحدّ الأدنى من مقوّمات المعيشة، وانكشاف البلاد اقتصاديًا وسياسيًا، وسياسات البيع المنهجية لأصول الدولة، من دون نظر أو اعتبار لمتطلبات أمنها القومي، ذلك كله لا ينبغي أن يخيف أحدًا لأن
"ربّنا موجود ومش هيسيبنا يعني" كما قرّر بطريرك السلطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق