الأمانة العلمية.. موقف غريب من مجلة الأزهر
د. عبد الآخر حماد
عضو هيئة علماء المسلمين
بمناسبة الهجوم الذي تعرض له الشيخ الشعراوي رحمه الله في الفترة الماضية أعادت مجلة الأزهر طبع كتاب: (محمد متولي الشعراوي.. جولة في فكره الموسوعي الفسيح)، للدكتور محمد رجب البيومي، رحمه الله، ووزعته هديةً مع عددها الصادر في شهر رجب 1444هــ.
وقد أحسنت المجلة صنعاً بهذا، لما في ذلك من الذب عن الشيخ رحمه الله، وبيان كذب المفترين عليه.
غير أني قد وقفت في هذا الكتاب على سقطة وقع فيها المسئولون عن تحرير المجلة،
كان لا بد من باب أمانة العلم أن ننبه عليها، ألا وهي أن القائمين على تصحيح الكتاب قد تصرفوا بحذف شيء منه لغرضٍ سيتضح بعد قليل.
وبيان ذلك أني وأنا أطالع الفصل الخاص بالتفسير بين الحقيقة والمجاز (صـ: 185 وما بعدها) لاحظت اختلالاً في كلام الدكتور البيومي؛
حيث بدأ رحمه الله من أول الفصل يتحدث عن قضية التأويل في النصوص الشرعية،
وتعرَّضَ لموقف الشيخ محمد عبده من تلك القضية،
وأنه اضطُر لتأويل بعض النصوص القرآنية بما يراه موافقًا للعلم الحديث
حتى يقطعَ الطريق على المفتونين بأوربا وعلومها العصرية،
المتهجمين على نصوص القرآن الكريم بدعوى مخالفتها لمنطق العلم الحديث..
ثم ذكر أنه حتى الذين يخالفون الإمام محمد عبده في اتجاهه هذا يعذرونه ويعرفون صدق منحاه، ويقدرون دوافعه فيما ذهب إليه.
ثمّ رأيت الدكتور البيومي يقول:
(ثم قال الأستاذ بعد ذلك: ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة في هذا الاتجاه، إلا أنه يلاحظ فيها عنصر المبالغة،
وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني، وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته،
هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير، ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه..).
ومعنى ذلك أن المؤلف يستأنف نقل َكلامٍ لشخص معين كان قد نقل عنه شيئاً سابقاً.
ولما كان سياق الكلام من أول الفصل ليس فيه إشارة لأحدٍ نقل عنه المؤلف، فقد أحسست بأن هناك شيئاً محذوفاً من كلام الدكتور البيومي، رحمه الله،
أو أن هناك على الأقل شخصاً معينًا كان قد ذكر المؤلف اسمه، لكن رأى القائمون على تصحيح الكتاب حذف ذلك الاسم.
ولما راجعت الكلام مرةً ومرةً وقع في صدري أن الاسم المحذوف هو اسم الأستاذ سيد قطب؛
وذلك لأني رأيت النقل المشار إليه يشبه أسلوبه رحمه الله،
وفيه من المصطلحات ما يشبه المعهود من مصطلحاته مثل «التصور القرآني»، و«طلاقة المشيئة» و«طلاقة القدرة».
كما أني تذكرت أني قرأت له كلاماً مثل هذا في كتابه: (في ظلال القرآن) عند تفسيره لسورة الفيل،
وذلك في سياق مناقشته واعتراضه على رأي الشيخ محمد عبده، رحمه الله، في الطير الأبابيل،
الذي ذهب فيه إلى ترجيح أن يكون سبب هلاك أبرهة وجيشه هو وقوع وباء الجدري والحصبة،
أو أن الطير الأبابيل قد تكون من جنس الذباب والبعوض الذي يحمل الميكروبات والجراثيم، لا أنها طير حقيقية، كما هو ظاهر النص القرآني.
فدفعني ذلك إلى الرجوع لتفسير سورة الفيل من الظلال، ومقارنته بما نقله الدكتور البيومي، رحمه الله.
فلما فعلت ذلك تأكد لي صحة ما ذهبت إليه؛
حيث وجدت الفقرة التي أشرنا إليها منقولة بنصها -وكذلك ما قبلها من السطور- من كلام سيد رحمه الله في الظلال (6/ 3978).
ويبقى السؤال بعد ذلك:
ما الذي حمل هيئة تحرير مجلة الأزهر على التصرف في كلام المؤلف رحمه الله؟
وإذا كانوا لا يطيقون ذكر اسم سيد، لأسبابٍ نعلمها جميعاً،
فما الذي حملهم على نشر هذا الكتاب من حيث الأصل؟
ونحن نعلم أن هناك كتباً كثيرة كُتبت عن الشيخ الشعراوي، رحمه الله،
فكان يمكنهم أن ينتقوا من تلك الكتب ما لا يسبب لهم مثل هذا الحرج
الذي يُضطرون معه إلى تغيير شيء قد كتبه رجل أفضى إلى ربه،
ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وحقه في أن يُنشر كلامه كما كتبه.
أوليس ذلك مخالفاً لحقوق الملكية الفكرية التي تُلزم الناشرين بعدم تغيير شيء في الكتب التي ينشرونها وبخاصة بعد وفاة أصحابها؟.
طلب برلماني حول حذف وتغيير المحتوى الفكري والأدبي
ومن غريب الاتفاق أنني طالعت وأنا أخط هذه السطور خبرًا نشرته جريدة الشروق القاهرية منذ أيام،
مفاده أن إحدى عضوات مجلس النواب قد تقدمت بطلب مناقشة عامة حول ما يحدث من حذفٍ وتغيير للمحتوى الفكري والأدبي لمفكري مصر من جانب دور النشر،
وقالت العضوة: إن الهدف هو استيضاح سياسة الحكومة تجاه منع أو حذف أو تغيير المحتوى من جانب بعض دور النشر،
موضحةً أن بعضها يُحدث تغييرًا وفقًا لأفكارها السياسية أو الفكرية، أو حسب معطيات السوق، وقالت: إن هذا غش وتدليس وتغيير في وعي الأمة
[ الشروق 19/ 2/ 2023].
ومن غريب تصرف أولئك المصححين أيضًا، أنهم لما أرادوا عزو تلك الفقرة إلى مصدرها، كتبوا بالهامش: انظر الجامع الصحيح للسيرة النبوية (2/ 403).
وبالبحث تبين لي أن هذا الكتاب هو في السيرة النبوية لمؤلفه الدكتور سعد المرصفي،
وأنه في الموضع الذي أشاروا إليه نقَل كلامَ سيد قطب، لكنه -أي الدكتور المرصفي- قد عزا ذلك الكلام لموضعه من الظلال؟
فليت شعري ما الذي يحملهم على هذا اللف والدوران؟ فإن الأمانة العلمية كانت تستوجب العزو إلى المصدر الأصلي (وهو تفسير الظلال)،
وبفرض أنهم لم يعرفوا موضع الكلام من المصدر الأصلي،
فقد كان عليهم أن يشيروا إلى أن صاحب الكتاب الوسيط ،قد نقل ذلك الكلام عن الظلال.
مثل أن يكتبوا مثلاً : «في ظلال القرآن، نقلاً عن الجامع الصحيح للسيرة صـ: كذا».
وعلى هذا جرت قواعد التحقيق العلمي في عصورنا هذه.
وأخيرًا:
فإني لا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة بين هذا الموقف المُريب من القائمين على مجلة الأزهر في أيامنا هذه،
وبين ما كان يحدث في نفس المجلة في عصورٍ خلت،
وبالتحديد في حقبة الستينيات من القرن الميلادي المنصرم،
حيث وجدت في بعض أعداد مجلة الأزهر في تلك الفترة تسامحاً في النقل والاستفادة حتى من بعض من كانوا في خصومة مع النظام آنذاك :
ففي عدد رمضان 1381هـ فبراير 1962م مقال للدكتور محمد رجب البيومي، رحمه الله،
عن عروبة مصر يُشيد فيه ببعض من تعلم منهم العروبة فيذكر منهم:
الزيات وعبد الوهاب عزام والرافعي والعقاد وطه حسين ومحمود شاكر وسيد قطب..،
وقد كان سيد قطب في ذلك الوقت مسجوناً بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان.
وفي عدد رجب سنة 1381هـ – ديسمبر 1961م
وفِي باب التعريف بالكتب تناولت مجلة الأزهر بالنقد والتحليل كتاب: (هل نحن مسلمون) للأستاذ محمد قطب، واصفة الكتاب بأنه دراسة جيدة لتصحيح مفاهيم الإسلام.
وَفي مقال بعنوان: (بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)
للدكتور محمد محمد أبو شهبة بعدد محرم 1383هـ- يونيو 1963م بيَّن رحمه الله عظمة التشريع الإسلامي
وسبْقَه لكل ما وصلت إليه القوانين البشرية المعاصرة، ثم استشهد على قوله هذا بكلام مطول عزاه لكتاب:
(التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي) للمستشار عبد القادر عودة رحمه الله،
(وهو أحد الذين أُعدموا من قيادات الإخوان في عام 1955م)،
وقد استهل هذا النقل بقوله: (وإليك كلام رجل عالم بالشريعة والقانون) ثم نقل الكلام المشار إليه.
فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق