توقعات معارضي أردوغان بعد الزلزال
تحاول تركيا أن تضمّد جراحها في مواجهة أكبر كارثة طبيعية حلّت بها في 100 عام الأخيرة. لقد انتهت أعمال الانتشال من تحت الأنقاض، والانشغال الآن منصبّ على تأمين الاحتياجات العاجلة للناس الذين غدوا بلا مأوى بعد الزلزال. وفي زياراته إلى المنطقة المنكوبة، وعد رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في تصريحاته التي أدلى بها بأن المنازل المنهارة جميعها سيُبنى غيرها بدلًا منها في غضون سنة.
كانت هذه الكلمات عزاء كبيرًا لمئات الآلاف من الأشخاص المتضررين من الزلزال ممن لا مأوى لهم حاليا أو الذين وُضعوا في خيام أو في سكنات طلبة الجامعات التي كانت في عطلة.
وإذا كانت المعارضة تنتقد وعود أردوغان، فإن الشعب يؤمن بشدة ويثق في قدرته على الوفاء بما وعد، حتى أنه يمكن القول إن قناة جديدة للثقة والتواصل بين الشعب وأردوغان قد نشأت بسبب هذا الوعد.
في الحقيقة، إن تحقيق أردوغان وعده هذا لا يبدو صعبًا على الإطلاق لمن يعرفون ما فعله في الماضي؛ فقد قام أردوغان من قبل ببناء أضعاف المنازل التي يعد بها الآن جراء الزلزال حتى تكون تلك المباني قادرة على مقاومة الزلازل حين تحدث، وبالفعل لم تصب المباني بأدنى ضرر في هذا الزلزال، وكانت تلك المباني ضمن نطاق إسكان "توكي" (TOKİ) الذي يعرفه الجميع الآن.
غير مساكن "توكي"، فإن المنازل والمباني التي شُيّدت في إطار برنامج "التحول الحضري" كذلك لم ينلها أي ضرر. ولمن لا يعرف برنامج التحول الحضري فهو برنامج تبنته تركيا منذ عدة سنوات، ويعبر عن التحول في المدن بحيث يضم هذا التحول كل العناصر الاجتماعية والاقتصادية والمكانية؛ أي تطوير المناطق التي يعيش بها سكان المدينة بكل الطرق الممكنة كي تصبح قابلة للعيش أكثر، وأيضا هدم المباني غير الصحية وإعادة بنائها من جديد.
في اليوم الثالث، ذهب أردوغان إلى الميدان بنفسه، وكان يسافر إلى مدينتين من المدن المنكوبة كل يوم، ومكث في الميدان 5 أيام في المجمل، واحتضن الشعب واستمع إليهم وتحدث معهم وقدم تعازيه وأدلى بتصريحات
هذه الحقيقة تحبط محاولة المعارضة تحميل أردوغان مسؤولية الدمار الذي خلّفه الزلزال، لأنه عند إثارة هذا النقاش يأتي في المقدمة أن منازل "توكي" التي تعد من أهم الأعمال في عهد أردوغان، الذي دام 20 عامًا، هي أفضل حل في مواجهة الزلازل.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن المعارضة تظهر في الواجهة وتركز على المناطق التي تدمرت بالكامل وعلى المباني التي تضررت بشدة والتي لا تقع ضمن هذين المشروعين، رغم أن أردوغان اقترح برنامج "التحول الحضري" منذ سنوات هناك، وكانت هناك الكثير من المعارضات لتطبيقه.
فعلى سبيل المثال، في أنطاكيا حيث الدمار الأعظم، قبل 14 عامًا كانت حكومة أردوغان هي التي اقترحت أن هذه المباني محفوفة بالمخاطر ويجب هدمها وإعادة بنائها، ووضعت لهذا وزارة التحضر البيئي بعض الخطط والمشاريع، لكن هذه المبادرة عُرقلت من قبل نواب حزب الشعب الجمهوري.
جاء المنع في البداية بحشد الجمهور وتحريضهم ضد هذا المشروع، ثم عُرض المشروع على القضاء وصدر قرار قضائي بإيقاف برنامج التحول الحضري الذي أراد أردوغان القيام به بقرار واضح من المحكمة.
رأت المعارضة حينئذ في منع أردوغان فخرًا لها وانتصارًا كبيرًا، أما اليوم فيرى الجميع تكلفة هذا المنع.
ومن طريف القول إنهم دائمو الاتهام لأردوغان بأنه دكتاتوري، ولكن يكفينا القول إنه بعد هذا القرار القضائي التي صدر واحتراما لحق الناس في الملكية الخاصة، فإن أردوغان لم يستطع فعل أي شيء، ولم يتم مشروع "التحول الحضاري" في تلك المنطقة رغم أهميته الشديدة، واحترم أردوغان القضاء وقراره.
في الوقت نفسه، فإن المعارضة في اليومين الأولين من الزلزال ألقت اللوم على الحكومة في عدم قدرتها على الوصول إلى منطقة الزلزال. وأثناء قيامها بذلك، عقدت مقارنات مع الزلزال الذي وقع في 17 أغسطس/آب 1999 وادّعت أن ما حدث هو تكرار للتاريخ. فهل ذلك صحيح حقًّا؟ في الحقيقة، لقد تغير الكثير في تركيا في 23 سنة ونصف مرت بين الزلزالين.
لقد تطور اقتصاد تركيا أيضًا كثيرًا، وتطورت مدنها، وكذلك جودة البناء وقدرة المؤسسات على إدارة الكوارث. في زلزال 1999 انهارت الدولة بالفعل ولم يكن هناك من يمثل الحكومة.
فعقب انقلاب 28 فبراير/شباط على أربكان، شُكّلت الحكومة بدعم من الانقلابيين، لكن لا الحكومة ولا العسكر استطاعوا أن يقدموا استجابة فعالة للزلزال. ولم يكن في الميدان سوى مؤسسات المجتمع المدني، مع فرق إنقاذ وإغاثة من بلديات إسطنبول وأنقرة وقونية التي كانت تابعة لحزب أربكان آنذاك.
أما النسبة العظمى من منظمات المجتمع المدني فكانت من منظمات الجماعات الدينية المحافظة. وصلت الحكومة إلى الميدان متأخرة جدًّا، وحين فعلت ذلك عبرت فقط حينها عن عجزها التام. كان عجز الحكومة إزاء ما حدث في ذلك الزلزال هو ما مهد فعليا الطريق لحزب العدالة والتنمية عام 2002، ولم يستطع الناس تحمل هذا الضعف والخذلان من قبل الحكومة.
في الواقع، تأمل المعارضة اليوم بشدة أن يفشل أردوغان وحزب العدالة والتنمية في هذا الزلزال، وأن يعيد التاريخ نفسه بالطريقة ذاتها. وإذا كان التاريخ يتكرر كما يريدون حقًّا، فكان ينبغي للحكومة أن تفشل، وكان يجب أن توجد في الميدان منظمات مدنية أقرب إلى المعارضة، وليس أردوغان وشرائح المجتمع المدني المحافظة، لكن لا يخفى على أحد أن ذلك لم يحدث.
ولكن المشهد اليوم ليس بصدد إثارة حماسة المعارضة؛ فالحكومة كانت في الميدان منذ الدقيقة الأولى، فقد كلّف أردوغان منذ اللحظة الأولى جميع الوزراء وأرسلهم إلى الميدان.
وإذ تضررت -لسوء الحظ- بالزلزال جميع الولايات الأقرب التي كان بوسعها أن تهرع على الفور للمساعدة عند وقوع كارثة، فقد جاءت المساعدة من الأماكن الأبعد. ورغم ذلك، فقد تم إرسال 35 واليًا من الولايات الأخرى إلى المنطقة، ونقل إليها كل اثنين أو 3 ولاة جميع إمكانات ولاياتهم. وفي كل مدينة متضررة حضر وزيران إلى الميدان منذ الساعة الأولى لتنسيق المساعدات، أما أردوغان فقد أشرف شخصيًّا على جميع أنشطة المساعدة والتدخل، وكان على رأس الجميع في مقر "أفاد" (هيئة الكوارث والطوارئ) في أنقرة.
وفي اليوم الثالث، ذهب أردوغان إلى الميدان بنفسه، وكان يسافر إلى مدينتين من المدن المنكوبة كل يوم، ومكث في الميدان 5 أيام في المجمل، واحتضن الشعب واستمع إليهم وتحدث معهم وقدم تعازيه وأدلى بتصريحات.
وبعد زيارة جميع المدن الخمس، زارها ثانية مرة أخرى وجعل ضحايا الزلزال يشعرون بأنه معهم طوال الوقت.
ولتضميد الجراح بعد الزلزال، منح أردوغان بعض الراحة للمتضررين بالإعلان الفوري عن البرنامج اللازم لإعادة الإعمار بالكامل.
من ناحية أخرى، حضرت في الميدان فرق مساعدة وإنقاذ من مئات المنظمات الدينية المحافظة غير الحكومية، فأعطت بذلك أملًا كبيرًا لضحايا الزلزال من خلال تنظيم البحث والإنقاذ والإغاثة بالتضامن مع الدولة، وليس بدلا عنها.
هذا المشهد برمّته لا يترك أي أمل للمعارضة في أن يخفق أردوغان في حادثة الزلزال، أي إن المشهد مختلف كثيرًا جدًّا عن عام 1999، وهو الآن لمصلحة أردوغان وحكومته تمامًا.
والآن يعبّر الناس علانية عن أملهم في أن يتمكن أردوغان فقط من إخراج هذه الأمة من مثل هذه الأزمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق